الرئيسية

الجزائر: بين مناورات الحكام.. وإصرار الشعب على “الكل أو لا شيء”

زهير داودي*

يبدو أن المداد الذي تكتب به الأحداث المتسارعة وتصاغ به التطورات المتلاحقة على صفحات كتاب التاريخ المعاصر للجارة الجزائر الشقيقة منذ حوالي شهرين، يحتاج إلى أكثر من دَوَاةٍ (محبرة).

إن التطورات التي عرفتها الأحداث من رجوع غير منتظر لعبد العزيز بوتفليقة من إقامته الإستشفائية في سويسرا، على الأقل في ذلك التوقيت، إلى استقالة أحمد أويحيى وحكومته، وتكليف وزير الداخلية نور الدين بدوي برئاسة الحكومة، تشكل (التطورات) مؤشرات على مرحلة حاسمة بين طرفي المعادلة: الحكام الفعليون القابعون في الدهاليز والكواليس، وشعب أصبح يشتم رائحة الكرامة والحرية والإنعتاق من أغلال "الحكرة" وقيود التحكم والإستبداد المسلطة عليه منذ عقود.

كما وسبقت الإشارة في مقالنا الأخير (عن الجزائر وحراكها.. وأمور أخرى. موقع "الدار"، السبت 9 مارس 2019) إلى أنه قد تتم التضحية بشخص بوتفليقة من أجل الحفاظ على النظام القائم بكل هياكله، فإنه يبدو أن الرئيس، المنهك ذهنياً وجسدياً، قد وُضِعَ في مأزق حقيقي بعد أن عَبَّرَ أولاً على الطريقة "العَابِدِينِيَة" نسبة إلى الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي عندما قال لشعبه الثائر: "إِيهْ نْعَامْ فْهَمْتْكُمْ"، وثانياً على الطريقة "المُبَارَكِيَة" نسبة إلى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك الذي نطق بصعوبة جملته المرتبكة الشهيرة: "لم أكن أَنْتَوِي الترشح".

لقد تحدث بوتفليقة في رسالته "الإصلاحية" الطويلة والمتشنجة، بعد إرجاعه من جنيف يوم الأحد 10 مارس الحالي، عن تأجيل الإنتخابات الرئاسية وعن عدم تقدمه شخصيا لهذه الإستحقاقات التي لا يعلم إلا الله متى ستنظم، ولم يعد خافياً لا على الجزائريين ولا على غيرهم أن الأمل في الحياة (Espérance de vie)، بالنسبة للرئيس التي تنتهي ولايته الرابعة يوم 28 أبريل المقبل، قد لا يصل إلى سنة واحدة، حيث سبق وأن (قال) حين تقدم بالترشح إنه سينظم إنتخابات سابقة لأوانها خلال سنة. وبعد أن أكد عدم الترشح، ظل بوتفليقة متمسكاً بهذه المهلة من خلال الإعلان عن إطلاق "حوار وطني" وتعديلات دستورية و"ضمان إنتقال سلس" للسلطة لا يمكن أن نعرف متى قد يبدأ ومتى قد ينتهي؟!

بعض الماكرين والغامزين واللامزين مافتئوا  يؤكدون على الحلم الذي ظل يراود بوتفليقة؛ حلم تنظيم مراسم تشييع جنازة رئاسية حاشدة كتلك التي تقام للملوك والرؤساء العظام الذين بصموا التاريخ في عصرهم، ولو كلف ذلك رهن مستقبل شعب برمته؛ شعب كل ذنبه أنه وثق في يوم من الأيام في "متقاعد" عن السياسة خلال فترة حكم هواري بومدين، ورجع من بعيد على صهوة جواد حاملاً ما يُسَمِّيهِ "الخلاص" من خلال إقرار وتنفيذ "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية" الذي عُوِّلَ عليه لإغلاق قوس (العشرية الدموية 1992/2002).

إن الإجراءات والقرارات الأخيرة التي تُنْسَبُ لبوتفليقة، تم اتخاذها في وقت قياسي تحت وطأة ضغط المواطنين الذين خرجوا في تظاهرات حضارية وسلمية غير مسبوقة، وهَمُّهُم الوحيد هو استرجاع كرامة دَاسَ عليها الإستعمار الفرنسي من قبل، وجاء بنو جلدتهم من الجيش ليمرغوا ما تبقى منها في الوحل.

إن محاولة الإلتفاف على الصحوة الكبيرة للشعب الجزائري من خلال اتخاذ قرارات صورية والعض بالنواجذ على السلطة، جُوبِهَتَا بوعي ومسؤولية وإصرار الشارع القوي الذي ارتأى أن لا بديل عن تحقيق طموحاته في التغيير الفعلي إلا برحيل النظام بما ينهي مرحلة طويلة من تحكم القوى غير الدستورية في كل الدواليب والأجهزة. 

وكعادة مثل هذه الأنظمة التي لا تحترم ذكاء الشعوب ولا تعيرها أدنى اهتمام، فقد كان للشعبوية النصيب الأوفر في الخرجات الإعلامية التي تلت ما يمكن تسميته ب"قرارات" من شأنها ثني المتظاهرين عن التمسك بالسقف الأعلى لمطالبهم المشروعة. فَمَا وَعْدُ نور الدين بدوي، الوزير الأول المكلف، بضم عناصر شابة من الحراك الشعبي إلى حكومته التي يُرَادُ لها أن تكون تقنوقراطية، إلا مثال صارخ على الإمعان في سلك سياسة ذر الرماد في العيون، ومحاولة المراهنة الفاشلة على عامل الوقت بغرض تشتيت وحدة الشارع وتماسكه وإضعاف قوته السلمية الضاربة.

ولعل الخرجات الإعلامية لمَسْؤُولَيْنِ رَسْمِيَّيْنِ هما نور الدين بدوي ورمطان لعمامرة، إضافة إلى تصريحات الأخضر الإبراهيمي الذي يُوصَفُ ب"الحكيم" عند البعض ويُنْعَتُ بـ"الفاشل" عند البعض الآخر، تَنِّمُ عن انقسام حاد وتصارع جلي بين قوى خفية تحاول أن تفرض أجندتها على الشعب من أجل الإستمرار في السيطرة المطلقة على آليات صنع القرار والتحكم في مقاليد السلطة.

والملاحظ أن الحكومة الجديدة المنتظرة سَتُسَيِّرُ أمورها برأسين (بدوي ونائبه لعمامرة الذي أضيفت له حقيبة الخارجية) يبدو جلياً أن لا تناغم بينهما. وقد يحسم القادم من الأيام مَنْ مِنَ الرأسين سيأتيها الحجاج بسيفه البتار. وهذه القوى الخفية لا تقتصر فقط على الجبهة الداخلية، بل تكمن – بطبيعة الحال – في القوى الكبرى التي انتقلت من التأكيد على "الحق المشروع للشعب الجزائري في التظاهر السلمي" إلى التعبير الواضح عن "حق الجزائريين في إنتخابات حرة ونزيهة تعبر عن إرادتهم".

لكن اللافت للنظر أن شخصيةً مثل رمطان لعمامرة قد تكون تحظى بدعم فرنسي معلن لعل أقل مؤشراته الواضحة هو كيفية تغطية وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) للندوة الصحفية التي تلت تعيين المسؤولين الحكوميين (الوزير الأول بدوي ونائبه لعمامرة).

وكالة (AFP)، وفي قصاصة إخبارية مطولة (يوم الخميس 14 مارس) بعنوان: "السلطات الجزائرية تسعى لإقناع الشعب بجدوى تمديد ولاية بوتفليقة"، أفردت للعمامرة حيزاً أكبر لأجوبته مقارنة مع أجوبة رئيسه بدوي، واصفة إياه ب"الدبلوماسي المخضرم"، وقبلها نشرت عدة قصاصات دسمة تمدح "الدبلوماسي المحنك الذي يحظى باحترام في الخارج"، في إشارة إلى دعمٍ لشخصه على حساب بدوي الذي فاجأ الصحافيين الجزائريين الذين حضروا ندوته المشتركة مع لعمامرة، ومعهم الرأي العام الجزائري والدولي، بمحدودية مستواه السياسي والتقني واللغوي مما يؤشر على أن مصير هذه الحكومة المكلفة دخل إلى النفق المجهول، وأنه حتى ولو كُتِبَ لها أن تتشكل، فإن عمرها قد لا يتعدى أياما أو بضعة أسابيع في أحسن الأحوال.

من جهته، لم يشذ الدبلوماسي المسن الأخضر الإبراهيمي (85 عاما) عن قاعدة سابقيه. فقد عَبَّرَ، ودون أي تحفظ، عن موافقته لإدارة الحوار الوطني تحت مسمى "الندوة الوطنية الجامعة المستقلة" إذا طُلِبَ منه ذلك، وهو الذي ظل يُجَاهِرُ في كثير من المناسبات ب"زهده" وبعدم سعيه إلى تبوأ أي موقع رسمي في بلاده.

ثلاثة توجهات في مواجهة الشعب 

الظاهر بعد كل هذا الذي يعتمل في الشارع من حراك شعبي وما يحاك في كواليس النظام على مدار الساعة، أن هناك ثلاثة توجهات تبرز بقوة على المستوى الرسمي بالجزائر:

1 – توجه الجبهة الداخلية: إن هذا التوجه الذي تقوده المؤسسة العسكرية المسيطرة على المشهد بأكمله، ومعها ما تبقى من "الدْجْمَاعَة" المهترئة، قد نجح في فرض وزير أول مفتقر بشكل واضح إلى الكاريزما اللازمة لتحمل مثل هذه المناصب في مثل هذه الظروف الصعبة، وذلك حتى يتم التحكم في قراراته كما ينبغي دون أن يجرأ لا على الكلام ولا على المناقشة ولا على الإقتراح.. ولو في حدود صلاحياته (نور الدين بدوي).

2 – توجه الجبهة الخارجية: هنا تبرز عدة دول نافذة وبخاصة فرنسا مدعومة ببعض المؤثرين النافذين في الداخل، وهو توجه استطاع فرض رمطان لعمامرة نائبا للوزير الأول، والذي قد تكون مُهِمَّتُهُ محاولة إقناع القوى العظمى والمؤثرة بما سَيَصْدُرُ من قرارات ضد إرادة الشعب، وهي المهمة التي توقعنا فشله فيها في المقال السابق. وقد تكون التضحية بأحمد أويحيى والإطاحة به من كرسي الوزارة الأولى، هي المقابل لتعيين لعمامرة الذي لم يَخْتَرْهُ أويحيى في حكومته الأخيرة، وفضل عليه عبد القادر مساهل أحد خصومه الشرسين.

وهنا يجب التأكيد على أن أي دور لفرنسا من أجل فرض من تعتبره "راعيا مخلصا" لمصالحها المتشعبة، سَيُجَابَهُ بالرفض الشديد من قبل المتظاهرين، وهو ما حصل فعلاً في الإحتجاجات حيث رفعت شعارات معادية للمستعمر السابق. وَمَا كَمُّ الإتصالات التي تلقاها قصر "الإليزيه" الرئاسي من مواطنين جزائريين يشددون على ضرورة إلتزام باريس بالحياد وعدم تدخل الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته في الشأن الداخلي الجزائري، إلا بداية لانهيار الهيمنة الفرنسية على ما تعتبره باريس "ملحقة فرنسية"؟!

الجزائريون مصممون، من خلال مضمون وشكل حراكهم الإستثنائي، على تأسيس دولة حديثة بأياد جزائرية وبإصرار حديدي يقطع مع الماضي الإستعماري البغيض. فإذا كان المفكرون والمتخصصون الكبار في التاريخ الحديث من فرنسيين وحتى جزائريين كمحمد أركون، يعتبرون أن الجزائر أسستها فرنسا في سياق مشروعها الإستعماري المعروف بإسم "إفريقيا الفرنسية"، فإن الكثيرين يرون أنه من المناسب جدا أن يغتنم الجزائريون الفرصة الحالية من أجل الإعلان عن تأسيس "الجمهورية الجزائرية الأولى" قوامها المكون العربي والأمازيغي والصحراوي (الطوارق)، وبانفتاح حقيقي، بعيدا عن الشعارات الفارغة، على محيطها الإقليمي المغاربي، وبهوية واضحة تخدم مصالح المواطن الجزائري أولا وأخيرا. وهذا ما سُيُعَقِّدُ دور الممثلين لمصالح فرنسا، وعلى رأسهم رمطان لعمامرة، مع الشعب المتظاهر ودعاة سقوط النظام القائم. فالجزائر يجب أن تقوم بدورها المنتظر في تقوية علاقاتها مع جيرانها، بدل معاكسة مصالحهم ودعم قضايا خاسرة والنفخ في كيانات وهمية، وهذا ما ظل الشباب الجزائري يعبر عنه في مواقع التواصل الإجتماعي في السنوات الأخيرة، في إشارة واضحة إلى رفضهم لما يقوم به حكامهم من دعم سخي لمشروع الإنفصال ورعايته بالكامل في المنطقة عبر دميتهم "البوليساريو".

3 – توجه جبهة الدائرة الضيقة لعبد العزيز بوتفليقة وأخويه (سعيد وناصر): هذا التوجه يحاول جاهداً فرض شخصية مقربة منهم، ويتعلق الأمر تحديدا بالأخضر الإبراهيمي المعول عليه لأداء دور إستراتيجي في المرحلة المقبلة من خلال المحافظة على دور بوتفليقة كرئيس للجمهورية إلى أن ينتقل إلى جوار ربه، مراهنين بذلك على علاقاته الدولية وحنكته المشكوك فيها من طرف المتظاهرين ومن العديد من السياسيين الجزائريين، مما ينذر بمحدودية دوره في القادم من الأيام.

25 يناير.. وسيناريو "الكل أو لا شيء"

إن ما أقدمت عليه القوى الحاكمة في الجزائر منذ بداية الإحتجاجات السلمية الحاشدة يوم 22 فبراير الماضي وحتى يومنا هذا، يذكرنا بما عاشته مصر إبان وبعد "ثورة 25 يناير 2011"، وبات السيناريو المصري الأقرب إلى التحقق في الجزائر مع الإعتراف والإقرار بالفرق الكبير بين الحدثين والشعبين. فقد يفاجئ الشعب الجزائري الجميع، ويختار طريقه بدلاً من أن تُمْلَى عليه "وَصْفَةٌ بدون روح" من هذا الطرف أو ذاك الطرف، ويصنع الحدث الأهم في تاريخه المعاصر من خلال فرض وتنزيل سيناريو (الكل أو لا شيء/ le tout ou rien)، والمرور عبر محطة إنتخابات حرة ونزيهة تحدد مصيره.

إننا نعتقد جازمين أن حكومة نور الدين بدوي ولدت ميتة، وأنها مناورة بائسة بغرض كسب الوقت واستقراء رد فعل الشارع على كل تغيير قد يطرأ على الساحة الداخلية.

مرة أخرى نقول للماسكين الحقيقيين بسدة الحكم في الجارة الشرقية ما قاله لوط عليه السلام لقومه: "أليس منكم رجل رشيد"، (الآية 78، سورة هود)، فالجزائر اليوم أمام محطة تاريخية فارقة سيكون لها تأثير كبير ليس فقط على الساحة الداخلية، بل على الساحتين الإقليمية والدولية.

ونأمل صادقين أن تنعم الشقيقة الجزائر بالإستقرار، وأن تتجاوز هذه المحنة بسلام، وأن ترسو سفينتها في بر الأمان خدمة للطموحات المشروعة لشعبها الذي يناضل من أجل الكرامة الحقيقية والعيش الكريم في دولة مؤسسات تحترم إرادته في اختيار من يدير شؤونه.

وفي الأخير، لابد من تذكير الحكام الفعليين في الجزائر بأن الموقف المغربي الرسمي والشعبي بخصوص ما يجري في بلادهم من حراك شعبي، هو موقف عدم التدخل لأن الأمر يتعلق بأمور خالصة تخص الشعب الجزائري الشقيق، ونذكرهم أيضا بأن دبلوماسية المملكة المغربية تستند دائما إلى مبادئ راسخة ومسؤولة قائمة على الإلتزام بميثاق الأمم المتحدة، واحترام حسن الجوار، وعدم إلحاق الضرر بالسيادة الوطنية وبالوحدة الترابية للبلدان، والوفاء بالمعاهدات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وخطابات جلالة الملك محمد السادس تحرص دائما على تأكيد الإلتزام بعدم تدخل الدول العربية والإسلامية في شؤون بعضها البعض.

الدبلوماسية المغربية، بقيادة جلالة الملك، لها عنوان واحد لا يتغير: عدم التدخل في شؤون الدول، ولا نسمح للغير بالتدخل في شؤوننا.

*صحافي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − 17 =

زر الذهاب إلى الأعلى