إسلاميات.. التباين البحثي في الاشتغال على الظاهرة الجهادية والمشروع الإخواني
منتصر حمادة
إذا كانت الساحة المغربية والساحة العربية بشكل عام، تعج بالإصدارات الخاصة بالظاهرة الإخوانية، إضافة إلى الإصدارات الخاصة بباقي الظواهر الإسلامية الحركية، من قبيل التيارات السلفية والجماعات الإسلامية الجهادية وغيرها، فإن الأمر مختلف كلياً في الساحة الفرنسية.
فخلافاً مع الاشتغال على الظاهرة “الجهادية” في الساحة الفرنسية، ومعها الظاهرة السلفية، حيث تحقق تراكم كمي ونوعي في الإصدارات، من كتب ودراسات وأبحاث، إضافة إلى المقالات والمتابعات الإعلامية، يبدو الأمر مختلفاً مع الاشتغال على الظاهرة الإخوانية، حيث يمكننا الجزم بأننا إزاء تواضع كمي ونوعي في قراءة الظاهرة، تسليط الضوء عليها، تفكيكها، أو نقدها، بينما نعاين فورة وتضخماً كبيراً في الإصدارات الخاصة بالظاهرة “الجهادية” كما سلف الذكر، وخاصة خلال العقدين الأخيرين، منذ منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن بداية، والذي سيكون محطة افتتاحية لاعتداءات عصفت بدول أوربية لاحقاً، فالأحرى منذ منعطف اعتداءات شارلي إيبدو في 7 يناير 2015.
ولكن إجمالاً، ثمة تواضع كبير في الاشتغال على المشروع الإخواني، مع أنه أكثر حضوراً في المشهد الإسلامي الحركي، مقارنة مع الظاهرة الجهادية مثلاً، التي تبقى أقلية، لولا أن بعض الأحداث التي تقع بين الفينة والأخرى، والمرتبطة بـ”التطرف العنيف”، تقف وراء شروع مجموعة من الأسماء في التفرغ البحثي للاشتغال على الظاهرة الإسلامية الجهادية، مقابل صرف النظر عن الاشتغال على المشروع الإخواني.
لا يقتصر الأمر هنا على التواضع الكمي في قراءة المشروع الإخواني، بل يصل إلى تواضع الوزن العلمي لأغلب الباحثين الفرنسيين وغير الفرنسيين من المقيمين هناك، ممن يشتغلون على الموضوع، مقارنة مع الوزن العلمي للرموز البحثية الفرنسية في حقبة ماضية، من قبيل ماكسيم رودونسون، جاك بيرك، لويس ماسينيون، وأسماء أخرى، وقد سبق لبعض الأسماء أن توقفت عند هذه المعضلة، وعنوانها التراجع النوعي في الاشتغال الرصين على هذه القضايا، مقابل الحضور الكمي، ونذكر من هذه الأسماء، محمد أركون وجيل كيبل، أحد الباحثين المقربين من دائرة صناعة القرار في فرنسا، حيث وجه الدعوة في كتابه “الانكسار” مثلاً، والصادر في سنة 2016، ضمن إشارات أخرى في السياق نفسه، لصناع القرار والباحثين ومختبرات الأبحاث إلى “ضرورة فهم مُعمق للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، عبر التمكن من لغات المنطقة، وأدوات التاريخ والأنثروبولوجيا، حتى لا نسقط في التخبط الذي عايناه أثناء التفاعل مع أحداث “الثورات العربيةّ”، والتي اختزلها بعض النقاد عبر استحضار مفهوم “صدام الحضارات” لصامويل هنتنغتون، لأن الأمر لا يختلف كثيراً في الساحة الفرنسية، بدليل ذكاء الفاعل الإسلاموي في ملأ الفراغات وتوظيف كل ما صالح للتوظيف، قصد خدمة مشروع الإسلاموية، باسم خدمة الجالية العربية والأقلية الإسلامية، بل اتهم الإسلاميين بـ”الاستحواذ على مقام النطق باسم الإسلام” (ص 234) هناك، وتحديداً عبر بوابة اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، الذي يُعتبر الذراع الفرنسي للجماعة”.
وقد تكون الإضافة النوعية في مجال الاشتغال على المشروع الإخواني في الساحة الفرنسية، قائمة مع انخراط بعض الأسماء البحثية الفرنسية من أصل مغاربي، إما لأنها مرّت من تجربة إخوانية، وبالتالي تملك بعض المفاتيح النظرية والعملية في قراءة الظاهرة، وإما لأنها لا تجربة لها قط مع المشروع، ولكنها متتبعة عن قرب لأداء الظاهرة، في المنطقة العربية والساحة الأوربية، وخاصة الساحة الفرنسية.
في الاتجاه الأول، نجد الباحث محمد لويزي والكاتب فريد عبد الكريم؛ أما في الاتجاه الثاني، فنجد على الخصوص ثلاثة باحثين متتبعين للظاهرة الإسلامية الحركية، ويتعلق الأمر بالثلاثي حواس سنيقر ومحمد علي العدراوي وسمير أمغار.
بل إن بعض النخب البحثية الفرنسية التي اشتهرت بالاشتغال على قضايا الإسلام والمسلمين والإسلاموية منذ عقود، لا زالت تؤمن بأن الاشتغال على هذه القضايا لا يتطلب بالضرورة الإلمام باللغة العربية، أو أن تعلم اللغة العربية، لا يُفيد كثيراً في قراءة المشاكل الدينية التي نعاينها في ضواحي المدن الفرنسية، كما يُعلن عن ذلك الباحث أوليفيه روا، مؤلف “عولمة الإسلام”، و”الجهل المقدس” وأعمال أخرى ترجمت إلى العربية، وهو الموقف الذي انتقده في أكثر مناسبة الباحث جيل كيبل، معلناً عن اعتراضه وخلافه مع هذا الطرح، معتبراً أنه لا مفر من “قراءة النصوص المؤسسة للإسلاموية، حتى نستوعب بعض مفاصل المرحلة الانتقالية بين القول والفعل”، بما يُفسر بعض أسباب نداء هنري بينيا رويز، مؤلف “قاموس ألعلمانية” عند اعتبر أن الإخوان المسلمين في فرنسا، على وشك كسب المعركة الدلالية التي انخرطوا فيها منذ سنوات، ما دامت نسبة من الرأي العام، التي تعرضت للدعاية والتضليل، أصبحت تؤمن بأن الإسلاموفوبيا تفيد بالضرورة الحقد على المسلمين، بينما الأمر غير ذلك”. (حوار مع هنري بينيا رويز، موقع “كوزور”، 19 ديسمبر 2019).
لا يقتصر الأمر هنا على هذا المعطى وعنوانه تواضع النخبة البحثية في قراءة الظاهرة الإخوانية، وإنما يمتد إلى معضلة موازية، عنوانها تواضع الأقلام البحثية المؤهلة للقيام بهذه العملية، بل إن هذه المعضلة نعاينها حتى في الدول العربية، رغم كثرة المراكز البحثية والمؤسسات الجامعية، ولكن إذا تركنا جانباً تبعات الاختراق الإخواني لهذه المؤسسات، فإن باقي المراكز البحثية البعيدة عن الولاءات الإسلاموية، تعاني خصاصاً في قراءة الظاهرة، وهي الظاهرة نفسها التي نعاينها في فرنسا.
ثم هناك معضلة أخرى مرتبطة بهذا المحدد الخاص بالتواضع البحثي، وهو أن الباحث المعني بقراءة الظاهرة الإخوانية في فرنسا، مطلوب منه أن يكون متمكناً من ملفين اثنين على الأقل، من التمكن من اللغة العربية والتمكن من الثقافة العربية الإسلامية:
أ ــ يتعلق الملف الأول بتمكنه من طبيعة المشروع الإخواني ومنه الأدبيات الإخوانية، على الأقل السائدة منذ عقود (منذ زمن سيد قطب، سعيد حوى، يوسف القرضاوي، هاني رمضان… إلخ)، حتى لا نطلب منه أن يكون متمكناً من أدبيات مؤسسة الجماعة حسن البنا، أو تفاصيل العديد من القضايا التي كشفت عن بعض معالم المشروع المسكوت عنها، من قبيل قضية “وثيقة التمكين” التي كشفت عند القيادي الإخواني خيرت الشاطر في سنة 1991، عندما اكتشفت أجهزة الأمن المصرية خطة أطلق عليها الإخوان “خطة التمكين”، والتي عُرفت إعلامياً بقضية “سلسبيل”، ضمن قضايا أخرى.
ب ــ يتعلق الملف الثاني بتمكنه من معالم الخريطة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية، وخاصة طبيعة المؤسسات الإسلاموية المحسوبة على المشروع الإخواني، سواء كانت صريحة في إعلان الولاء أو التعاطف مع المرجعية الإخوانية، من قبيل “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا”، الذي يُعتبر عملياً الفرع الفرنسي للمشروع الإخواني، وإن قام بتغيير الإسم نحو ما سُمي تقية بـ”اتحاد مسلمي فرنسا” في سنة 2017، أو تعلق الأمر بمؤسسات وجمعيات تدعي أخذ مسافة من المشروع، ولكنها منخرطة في خدمته على أرض الواقع، وهذا هو السائد بشكل جلي في الساحة هناك مع العديد من المؤسسات والجمعيات.
وواضح أن عدد الباحثين الفرنسيين الذين يجمعون بين التمكن من هذين الملفين، يكاد يكون أقل عدد أصابع اليدين، لأننا قد نجد من هو متتبع ولو نسبياً لتاريخ المشروع، دون أن يكون ملماً بطبيعة معالمه في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني في فرنسا؛ أو العكس من ذلك، قد نجد باحثاً متتبعاً لطبيعة هذا الحضور الميداني، ولكنه غير ملم بتاريخ وأداء المشروع، وليس صدفة أن النخبة البحثية في فرنسا “لا تتوفر على أي إصدار توثيقي يؤرخ لمسار الإسلاموية في فرنسا”، كما أشارت إلى ذلك باربرة شتيغلر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بوردو، ومتخصص في الفلسفة السياسية. [وأضافت الباحثة أن فرنسا تتحمل مسؤولية في تفريغ الظاهرة الإسلاموية، لأنها سمحت بحصول إسلاميي الجزائر على تأشيرات في مطلع التسعينيات، سواء تعلق بالمعتدلين أو غيرهم، بهدف المساهمة في ضبط الضواحي”].
من خلال استحضار مُجمل هذه العوائق الثلاثة أعلاه المرتبطة بالتفاعل البحثي الفرنسي مع الظاهرة الإخوانية، أي عائق تواضع الأعمال البحثية، ندرة الأقلام المؤهلة لذلك، والخصاص الكبير في الجمع بين الاطلاع على المشروع ومتابعة أداءه في الساحة، نستوعب أهم أسباب ندرة الأعمال البحثية التي تشتغل على الظاهرة الإخوانية، بصرف النظر هنا عن مضامينها، كأن تكون نوعية أو متواضعة، فهذه جزئية ثانوية أمام الجزئية الأهم، أي إن التراكم البحثي القائم متواضع أساساً، مقابل التراكم الكمي والنوعي في التفاعل مع الظاهرة الجهادية.
ومما يزيد المشهد تعقيداً، تفاعل الرموز والمؤسسات الإخوانية مع كل من سولت له نفسه الاشتغال البحثي على مشروعهم، حيث يمكن أن يُتهم بأنه من أقلام “الإسلاموفوبيا” من قبيل الاتهامات التي تتعرض لها النسوية اليمينية كارولين فوريست، بسبب نقدها إسلاميي فرنسا، كما لو أن نقد الإسلاموية معناه نقد الإسلام، بينما الأمر خلاف ذلك، وهذا سبب من أسباب عزوف مجموعة من الباحثين عن الخوض البحثي في الاشتغال على الظاهرة، بسبب تأثير الخطاب الإسلاموي على النخبة الفكرية والإعلامية، باستثناء النخبة اليمينية في هذين الحقلين، وهي متواضعة مقارنة مع النخبة اليسارية، التي تبقى حاضرة كماً ونوعاً، لولا أنها موزعة بدورها على اتجاهين اثنين: اتجاه حليف موضوعي، بشكل علني أو غير مباشر مع المشروع الإخواني، تحت شعار “معاداة الاستعمار”، و”معاداة الرأسمالية”، وهو الاتجاه الذي يُصنف في خانة “يسار الإخوان”، على غرار السائد هنا في المنطقة؛ مقابل اتجاه يطبق الصمت، كأنه يعمل من حيث لا يدري بقاعدة “كم حاجة قضيناها بتركها”.