الدين والحياةسلايدر

إسلاميات.. حاجة الإسلاميين السابقين إلى المصاحبة النفسية والروحانية

منتصر حمادة

كانت أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ2013]، أو “الربيع العربي” بتعبير مجلة “الفورين بوليسي” الأمريكية، محطة جديدة من المحطات التي على إثرها، قررت نسبة من أتباع الإسلاموية، الإخوانية والسلفية و”الجهادية”، الابتعاد بشكل نهائي عن المشروع، وأخذ مسافة منه.
نقول هذا بصرف النظر عن طبيعة الابتعاد عن التنظيم، وقد سبق أن تطرقنا إلى وجود أربع اتجاهات في هذا السياق، وهي الابتعاد النظري والتنظيمي، وهذه هي الحالة التي تهمنا أكثر في هذه المقالة؛ وهناك ثانياً الابتعاد النظري الذي لا يُصاحب بالابتعاد عن التنظيم، من أجل عدم فقدان الامتيازات المادية والرمزية، ونعاين هذه الظاهرة في الساحة هنا في المغرب مع العديد من الأمثلة؛ وهناك ثالثاً، الابتعاد التنظيمي، دون الابتعاد النظري، وهذه ظاهرة نعاينها أيضاً في الساحة، وأحد أسبابها، أنه يصعب التحرر نظرياً من المشروع بسبب النهل الإيديولوجي، لذلك يستغرق الأمر بعض أو كثير وقت، قبل التحرر النظري، موازاة مع التحرر التنظيمي الذي يمكن أن يمكن يتم بين ليلة وضحاها؛ وأخيراً، هناك من لا يبتعد نظرياً وتنظيمياً، وبالرغم من ذلك، يزعم خلاف ذلك، وهذه حالات خاصة، تندرج في مقام التقية سيء الذكر.
ما يهمنا هنا إذن، النموذج الأول أو التيار الأول، لإسلاميين سابقين، كانوا أتباع هذا المشروع أو غيره، سواء كان إخوانياً أو سلفياً أو “جهادياً”، ولكنهم قرروا الانفصال بشكل نهائي عنه، بعدما اقتنعوا أنهم كانوا أتباع مراهقة فكرية أو سذاجة سلوكية، أو تأثروا بدعاية إسلاموية، ويمكن معاينة بعض النماذج مع حالات شباب مغربي، شدّ الرحال إلى سوريا والعراق من أجل القتال إلى جانب “الجهاديين”، قبل أن يكتشف أن المشهد أعقد من الدعاية الذي تعرض لها، بما فيها دعاية من أثر عليه هنا في الساحة، سواء في الواقع المادي أو في العالم الرقمي.
ما يمرُّ منه هؤلاء، باسم المرجعية الإسلامية الحركية، هو عينُ ما مرّت منه فئة أخرى من الشباب، باسم المرجعية اليسارية، ومعلوم أنه إذا كانت لليسار في المغرب محطة فاصلة، كانت عنواناً على تراجع مشروعهم وفشله، والدخول في التالي إلى مرحلة ما بعد اليسار، كصيغة ملطفة للحديث عن أفول اليسار، فالأمر نفسه مع الإسلاميين، من قبيل النموذج الإخواني، لأنه اتضح أن لهم محطة كانت عنوانهاً على تراجع مشروعهم وفشله: بالنسبة لليساريين، يتعلق الأمر بمحطة سقوط جدار برلين، في 9 نوفمبر 1989، والذي كان صدمة نفسية عميقة على جميع المرجعيات والإيديولوجيات اليسارية في العالم، بما في ذلك المرجعيات الإيديولوجية هنا في المغرب والمنطقة، وبالنسبة للإسلاميين، يتعلق الأمر بأحداث “الفوضى الخلافة”، ابتداءً من يناير 2011.
صحيح أن الأقلام الإسلامية الحركية ضخمت من أجواء الفوز في عز أحداث “الفوضى الخلاقة”، سواء في المنابر الإعلامية أو المراكز البحثية، التابعة للمحور الاستراتيجي الذي احتضن المشروع الإخواني، ولا زال الأمر كذلك، بشكل أو بآخر، مع عدة مراكز بحثية بعضها يُمارس التقية، هنا في المغرب، فالأحرى في المنطقة، ولكن اتضح الرأي العام عملياً، فالأحرى للنخبة أو الباحثين المتتبعين لأداء المشروع، أن المشروع الإسلاموي محدود الأفق الإصلاحي، وأن خطاب حسن البنا أو سيد قطب أو عبد السلام ياسين وباقي الرموز الإسلامية الحركية، خطاب قد يكون صالحاً في مجال الدعوة السلمية والتزكية الأخلاقية وما جاور هذا السقف التربوي، ولكنه بعيد عن إكراهات الساحة، بتعقيداتها الثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
يمكن لأتباع الشيخ عبد السلام ياسين مثلاً، الدعاية والترويج لخطابه التربوي والوعظي، ولن يجدوا من يعترض عليهم في ذلك، حتى لو كانوا يشتغلون في مؤسسات الدولة الوطنية، وهذا أمر قائم فعلاً، لأن هذا الخطاب الوعظي لا يختلف بشكل عام عن السائد في المؤسسات الدينية أو في مضامين خطبة الجمعة، ما دامت ثنائية الترغيب أو الترهيب في الوعظ، جاري بها العمل في الأدبيات التراثية، وسائدة من قرون مضت، ولا يعترض عليها أحد، وهي الثنائية التي اشتغلت عليها كثيراً بعض الأسماء المحسوبة على تيار “الدعاة الجدد” في حقبة ما، من قبيل عمرو خالد وطارق السويدان وأسماء أخرى.
ولكن الأمر مختلف كلياً عندما يدافع الأتباع أنفسهم عن الشق السياسي لخطاب عبد السلام ياسين، وهم يعاصرون حقبة الدولة الوطنية الحديثة، وليس ما يُسمى “دولة الخلافة” أو “الخلافة على منهاج النبوة” بتعبير أدبيات الجماعة، كأن الفترة التاريخية الممتدة من حقبة الخلفاء الأربعة (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي [634 م ــ 661 م]، حتى مرحلة ما بعد أفول الإمبراطورية العثمانية في 1924م، كانت فترة فراغ، وفجأة، هناك أدبيات إسلاموية، يمكن الرهان عليها من أجل “إقامة دولة الخلافة” حسب دعاية المشروع سالف الذكر، وهي دعاية تنهل من منطق سياسي فاسد في الاعتقاد، لاعتبارات عدة، أقلها ما كنا نعاين مع خروج الأفواج من الجماعة، قبل وبعد أحداث “الفوضى الخلاقة”، أو قبل وبعد أحداث أخرى مرّت منها الجماعة، من قبيل الشعارات التي روجتها القيادات والقواعد حول ما سُمي حينها بـ”رؤى 2006”.
لقد كان الباحث آصف بيات سباقاً للحديث عن “ما بعد الإسلاموية”، ونضيف معه مجموعة من الأسماء، من داخل وخارج المنطقة العربية، من قبيل حسام تمام من مصر، أوليفيه روا من فرنسا، فريد الأنصاري من المغرب، وأسماء أخرى، ولكن حديث هذه النخبة البحثية عن أفول الإسلاموية صدر قبل اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة”، والاستشهاد به حينها، مباشرة بعد اندلاع تلك الأحداث، كان يحنها أشبه بالخروج عن الخطاب الاحتفالي الصادر حينها، سواء عن الأقلام الإسلامية الحركية، أو الأقلام المحسوبة على “اليسار الإسلامي” أو “يسار الإخوان”، لولا أنه بعد مرور عقد تقريباً على تلك الأحداث، اتضح أن الأقلام سالفة الذكر، كانت على صواب.
الشاهد هنا، أن التيار الأول الذي أخذ مسافة من هذه المشاريع، ونتحدث عن مسافة نظرية وتنظيمية، بعدما اقتنع بأنه كان تابعاً لمشاريع مثالية أو طوباوية، في حاجة إلى مصاحبة نفسية وروحانية، حتى لا يتورط في حالة أقرب إلى التيه، كما نعاين ذلك في الساحة مع العديد من الأمثلة، وصل بعضها إلى درجة “الإلحاد النفسي”، والاعتراض على القيم الإسلامية ذاتها، وليس الاعتراض على قيم وأدبيات الإسلاموية وحسب، ضمن تبعات أخرى.
ولعل هذه الدعوة، تفسر انضمام بعض أتباع الإسلاموية المغربية سابقاً، إلى التديّن الصوفي، سواء كان طرقياً، أي في إطار الانضمام إلى طريقة صوفية ما، أو بشكل فردي، عبر تبني الخطاب الصوفي، بعيداً عن القوالب الإيديولوجية التي توظف الخطاب الديني في صراعات وقلاقل محلية وإقليمية ودولية.

زر الذهاب إلى الأعلى