إسلاميون مغاربة أفغان أكثر من الأفغان
منتصر حمادة
تطرقنا في مقال سابق إلى بعض تفاعلات الإسلاموية المغربية مع التطورات السياسية التي تمر منها تونس، وصدر المقال حينها تحت عنوان “إسلاميون مغاربة تونسيون أكثر من التونسيين”، وتتكرر الظاهرة نفسها مع تفاعل الإسلاموية نفسها مع الأحداث التي تمر منها أفغانستان مؤخراً، بما يقتضي بداية التوقف عند هذا المنعطف.
نتحدث عن مفاجأة إقليمية ودولية أن يُعاين الرأي العام هذه العودة الجديدة لحركة طالبان للساحة، ودخولها للعاصمة كابول بعد عقدين بالضبط على أحداث 2001ــ2002، والتي جعلت الإمارة تبدو خارج تاريخ الدولة الوطنية الحديثة، حتى إن العديد من القراءات البحثية والإعلامية تنبأت حينها بأن الإمارة لن تصمد أمام التحديات الداخلية التي تهم التعدد العرقي والقبلي والمذهبي في أفغانستان، موازاة مع تراكم التحديات الإقليمية، وهي التحديات نفسها التي لا زالت قائمة اليوم، بل ازدادت استفحالاً، وبالرغم من ذلك، نهضت الإمارة على غرار نهوض طائر الفينيق.
أشرنا في خاتمة الدراسة حول الموضوع، وصدرت منذ عشر سنوات، إلى أحد المفاتيح النظرية التي غابت عن أغلب القراءات الصادرة في عز صعود إمارة طالبان، وجاء في الإشارة أن “سقوط طالبان قد يُحيل على سقوط ونهاية مشروع “إمارة أفغانستان الإسلامية”، ولكنه لا يعني في المقابل نهاية طالبان، التي لن تختفي من الساحة، كما تؤكد على ذلك تطورات السنين التي تلت أحداث يوم 13 نوفمبر 2001، مادامت الحركة استفادت من كوادرها الملتزمة، ومن أجواء الغضب التي تسود الساحة الأفغاني من جراء الحضور الأمريكي”.
وواضح أن ما نعاينه اليوم، لا يمكن فصله عن بعض تطبيقات هذه الإشارة على أرض الواقع هناك، والمعرضة لمزيد من التطورات، بمقتضى المفاجأة أو الصدمة التي تبدو على أذهان العديد من المراقبين، من شتى بقاع العالم.
مما كشفت عنه هذه الأحداث أيضاً، حالة تغيير نسبي في خطاب قادة الحركة مقارنة مع الخطاب الذي كان يُميز منذ عقدين، سواء في التعامل مع المعارضين محلياً، أو في التعامل مع ملف المرأة المؤرق وملفات أخرى، لكنها كشفت رغم ذلك، عن إعادة ترويج بعض الصور النمطية عن علاقة فئة من مسلمي القرن الواحد والعشرين مع ثنائية الدولة والدين، بسبب نجاح حركة، أو السماح لهذه الحركة، في العودة لسدة الحكم في دولة مترامية الأطراف مثل أفغانستان.
ومع أن الشأن الأفغاني، بما في ذلك هذه الصراعات القبلية والعرقية التي تمر منها أفغانستان منذ حقبة خروج القوات السوفياتية، ابتداءً من 1988، يبقى شأناً داخلياً في نهاية المطاف، إلا أن تداعياته الإقليمية على الخصوص، وتفاعلات العديد من الفاعلين في الفكر والدين هنا في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، تُفيد أنه من الصعب اختزاله في مجرد شأن أفغاني داخلي صرف.
ــ فمن جهة، هناك الجوار الروسي ــ الإيراني ــ الصيني الذي يعيش حالة استنفار استراتيجية بسبب هذا المنعطف الأفغاني الداخلي، بعد عودة الحركة إلى الواجهة، ونخص بالذكر الجوار الإيراني، الذي كان متفرغاً لمشاريع الهيمنة والتأثير السياسي والاستراتيجي على دول الخليج العربي والمشرق العربي، إلى أن جاءت هذه التطورات التي يمكن أن تساهم في تقويض هواجس الهيمنة والتأثير على دول الجوار.
ــ ومن جهة ثانية، كشفت تفاعلات العديد من الرموز الإسلامية الحركية في المنطقة العربية، ومنها تفاعلات العديد من الإسلاميين المغاربية، وخاصة تفاعلات الرموز الإخوانية والسلفية، عن تعاطف كبير مع هذا المستجد، بل وصل الأمر عند البعض إلى درجة إعادة شعارات حقبة “الصحوة الإسلامية” بسبب هذه العودة، رغم النكسات التنظيمية والسياسية والثقافية التي تمر منها الصحوة ذاتها في المنطقة، من قبيل ما نعاين في نماذج مصر والسودان وتونس والمغرب ونماذج أخرى.
في هذه الجزئية بالذات، وتهم صناع القرار في المنطقة العربية على الخصوص، هناك عودة نسبة من رموز الحركات الإسلامية إلى خطاب ما قبل المراجعات، أي الخطاب الذي يُقوض خطابها عن إيمانها بالدولة الوطنية، بعد أن روجت طيلة عقد أو عقدين، حسب طبيعة النموذج الإسلاموي المعني، أنها انخرطت في مراجعات نظرية بخصوص التفاعل مع الثنائية المؤرقة سالفة الذكر التي تدور في فلك الدولة والدين، وهي الثنائية التي كان علي عبد الرازق سباقاً إلى التدقيق فيها منذ 1925 عند ألف كتابه المرجعي “الإسلام وأصول الحكم”.
لم تكن أغلب الحركات الإسلامية في المنطقة العربية، فالأحرى الحركات الجهادية في أفغانستان، في حقبة ما بعد خروج القوات السوفياتية، تؤمن بجدوى وأهمية كتاب علي عبد الرازق، خاصة في فورة الحماس الميداني المرتبط بطرد الجنود السوفيات، وفورة خطاب الحماسة التي حظيت به محلياً وإقليمياً، إضافة إلى العاطفة الكبيرة التي ميزت حقبة ظهور تنظيم “القاعدة” والمعارك المجانية التي ورط فيها الآلاف من شباب المنطقة والعالم الإسلامي، ضد الدول العربية والإسلامية والغربية على حد سواء.
والأمر نفسه في حقبة ما بعد منعطف أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ــ 2013] ــ أو “الربيع العربي” باصطلاح مجلة “الفورين أفيرز” الأمريكية ــ حيث كان الحديث عن وثيقة “الإسلام وأصول الحكم”، أشبه بالخوض في اللغو الفكري والديني عند مجمل الإسلاميين، لولا أن نتائج هذه الفوضى، أكدت أهمية هذه الوثيقة، كما تؤكدها أيضاً دلالات عودة إمارة أفغانستان اليوم إلى كابول، أمام صدمة الجميع، داخل وخارج أفغانستان.
أمام تراجع شعبية الإسلاموية في المغرب، موازاة مع تراجع شعبيتها في المنطقة العربية، جاءت أحداث أفغانستان لكي تغذي خطاب المشروع، كما تلخص ذلك دلالة العديد من التفاعلات، سواء جاءت بشكل فردي، صادرة عن هذا الفاعل الإسلامي الحركي أو غيره، وتلخصها على الخصوص التفاعلات في العالم الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، أو التفاعلات الصادرة عن هيئات ومؤسسات إسلامية حركية، من قبيل ما يُصطلح عليه بـ”الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وهي مؤسسة دينية إيديولوجية، تشتغل تحت سقف وتوجيهات محور تركيا ــ قطر، ويترأسها حاليا الرئيس السابق لحركة إسلامية مغربية، خلفاً للداعية المصري يوسف القرضاوي، الذي كشف عن وجهه الحقيقي تعامله مع بعض أنظمة المنطقة، مباشرة بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة”.
في هذا السياق، هنأ الاتحاد الإخواني، حركة طالبان “بإخراج المحتلين بجميع صنوفهم” من أفغانستان. وأكد أنّه يبذل كل جهوده “لخدمة الشعب الأفغاني في اختياره حكومة عادلة قوية رحيمة حضارية”، كما جاء في بيان صادر عن المؤسسة الإخوانية، وقعه الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الداعية الإخواني القرة داغي، معتبرا أننا إزاء “نصر عظيم من الله تعالى ودليل على صبر الحركة وجهودها المتواصلة وحنكتها السياسية وقدرتها على المناورة حتى تحقق هذا الخير”، إنه “انتصار الحركة في اتفاقيتها مع أمريكا بإخراج المحتلين فتح، وما تحقق الآن هو النصر الذي سيتوّج بإذن الله بتوحيد أفغانستان على حكومة واحدة متحدة عادلة تسع الجميع”.
تفاعلت الإسلاموية المغربية مع أحداث تونس أكثر من تفاعلها مع أحداث وطنية، من قبيل الأزمات التي ميزت العلاقة المغربية مع الجزائر أو ألمانيا، حتى بدوا كأنهم تونسيون أكثر من التونسيين (كما هو الحال مع تدوينات عضو في الدائرة السياسية لجماعة “العدل والإحسان”، وهو للتذكير، أستاذ علوم سياسية في جامعة مغربية، أي أستاذ في مؤسسة من مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة)؛ وتفاعلوا مع أحداث أفغانستان، أكثر من تفاعلات أهم، تهم الدولة، حتى بدوا كأنهم أفغان أكثر من الأفغان، لأن التربية الإسلاموية، تربي أتباعها على هذا المنوال، وعاينا هذا المعطى حتى مع إسلاميين، يزعمون أنهم كانوا كذلك، وكونهم ابتعدوا عن التنظيم، فالأحرى ما يصدر عن الإسلاميين الذين لا زالوا يحلمون بـ”دولة الخلافة”.