منتصر حمادة
تسبب القرار الحكومي القاضي بضرورة الإدلاء بجواز التلقيح قصد الولوج إلى الإدارات والمؤسسات العمومية والخاصة، في إثارة نقاش مجتمعي، بين أخذ ورد، وكشف عن انخراط العديد من الفعاليات في استحضار بعض المفاهيم التي تندرج بشكل أو بآخر في باب الفلسفة السياسية، من قبيل القانون، الدستور، الحرية، المواطنة، ومفاهيم أخرى، وهذا أمر يصب في مصلحة الجميع: الدولة والمجتمع والوطن.
هذا أمر متوقع إذن، وكان متوقع أيضاً أن نعاين صدور حالات موازية في النقاش، وصلت إلى مقام الشعوبية وتمرير المواقف السياسية الإيديولوجية وإن كان الأمر يتعلق هنا يتعلق بظواهر متوقعة، لأن الشعبوية ظاهرة عالمية، بل ازدادت استفحالاً خلال العقد الأخير، إلى درجة أننا نعاينها حتى مع رؤساء ووزراء وبرلمانيين في العديد من الدول، فالأحرى الحديث عن الشعبوية عند نسبة من الرأي العام، سواء هنا أو في المنطقة أو في العالم.
أما تمرير المواقف السياسية الإيديولوجية في سياق التفاعل مع القرار الحكومي سالف الذكر، فيكاد يكون تحصيل حاصل، لأن العمل الحكومي، يُواجه بعدة أنماط من المعارضة، سواء تعلق الأمر بالمعارضة القائمة في المؤسسات التشريعية، أو المعارضة التي تقوم بها المنابر الإعلامية، التابعة لأحزاب المعارضة، أو التابعة لتيارات إيديولوجية، فالأحرى المعارضة الرقمية التي نعاينها في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي نعاينها هي أيضاً في دول أخرى بحكم ارتفاع أسهم وتيرة الحضور الرقمي.
ما يُثير الانتباه هنا على هامش هذا التفاعل النقدي المطلوب، كونه تطور إلى مقامات تندرج في باب قلة الأدب، إن لم نزعم أن الأمر وصل إلى مقام قد يصل إلى رفع دعوى قضائية بتهمة السب والشتم، والحديث يهم ما تعرض له البروفيسور عز الدين الإبراهيمي، كما جاء ذلك في أوصاف صدرت عن أحد المحللين الاقتصاديين، من المحسوبين على المرجعية الفرانكفونية، على أمواج إحدى الإذاعات الخاصة، ومقرها الدار البيضاء، حيث وصل الأمر به إلى وصف الحكومة المغربية بـ”النازية” [كذا]، بل وصف أعضاء اللجنة العلمية المغربية التي تنسق مع الحكومة في سياق اتخاذ القرارات الملائمة لملف تدبير الجائحة، بأنها “جهاز غستابو علمي”، في إحالة على جهاز “الغستابو” الألماني على عهد النازي أدولف هتلر.
لم يقتصر الأمر على صدور هذه الاتهامات غير السوية، بل امتد إلى صمت الإذاعة الخاصة عن الرد والتعقيب على تلك الاتهامات، إضافة إلى أنها نشرت المحتوى نفسه في صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”.
لا نتوقف هنا عند تبعات الاتهامات الموجهة إلى الحكومة، فهذا شأنها، وهي المعنية بالرد والتفاعل، ولكن الأمر مختلف مع الاتهامات التي صدرت ضد البروفيسور عز الدين الإبراهيمي، لأنه لا يمكن الصمت عنها، أو التعامل معها كأنها لم تصدر، ولو أن المعني تفاعل رسمياً مع الاتهامات إياها، محتفظاً بحقه في احتمال اللجوء إلى المتابعة القانونية، حيث أعرب عن “هول الصدمة، لأني لم أكن أتخيل يوما ما ــ كما جاء في موقفه ــ ولو للحظة وفي أسوء كابوس… أن أنعت على راديو مغربي، بالنازي فقط لأني تطوعت لمساعدة بلدي خلال أكبر أزمة صحية يعرفها العالم، بسبب إسداء رأيي العلمي المتواضع والمتجرد، في محاكمة غيابية على شاكلة “نورنبرغ” [يقصد محاكمة النازيين الألمان]، وبصك الاتهام “الاختلاف في الرأي”، أجرد من إنسانيتي، وتلفق لي تهم جرائم ضد الإنسانية، دون أن تعطى لي فرصة التعبير عن رأيي الذي أحاكم من أجله، ولا الدفاع عن نفسي أمام من نصبوا أنفسهم قضاة وحماة للإنسانية، ويصدر أحدهم الحكم “نازي”. [انتهى الاقتباس].
من الصعب حصر مقامات النقد والاعتراض، لكن هناك ضوابط أو أعراف في النقد، وفي حالة عدم احترام هذه الضوابط، غالباً ما نصل إلى باب القضاء من أجل رد الاعتبار، ويكفي الاطلاع على لائحة عريضة من القضايا التي نعاينها في العديد من الدول الأوربية والأمريكية، التي تصب في هذا الاتجاه، بسبب تبعات تصريح إعلامي أو تبعات تدوينة، أو تبعات التلفظ بكلمة، دون الحديث عن صدور أحكام قضائية صارمة في السياق نفسه، أو تقديم استقالات، وفي حالات أخرى، تقديم الاعتذار، وواضح أن مجمل هذه التفاعلات غائبة كلياً في الواقعة التي نتوقف عندها هنا.
سبق أن أشرنا في مقال سابق، إلى إحدى الدروس المحلية والدولية المرتبطة بهذه الجائحة، وبالتحديد الدروس المرتبطة بالقراءات العلمية ذات الصلة بالأزمة، وخاصة علوم الطب والصيدلة وأداء المختبرات الطبية وما جاور كل القطاعات العلمية اللصيقة بالملف، أقلها ارتفاع مؤشر رد الاعتبار للعلماء العاملين في هذه المجالات، وليس صدفة، أن هؤلاء، سواء تعلق الأمر بأهل الطب والتمريض والصيدلة.. إلخ، صُنّفوا في خانة صفوف المواجهة الأمامية، في حملة التلقيح الجماعي، موازاة مع فئات مجتمعية أخرى، وقد توقفنا حينها عند ثلاثة نماذج، منها حالة البروفيسور ديديي راؤول، وهو مدير المعهد المتوسطي للأمراض المعدية في مدينة مرسيليا الفرنسية، وحالة البروفيسور عز الدين الإبراهيمي، الذي يشغل منصب مدير مختبر التكنولوجيا الحيوية، إضافة إلى أنه يقود فريقاً من العلماء للبحث عن علاج لمرض التوحد.
إن الاعتراض على بعض خلاصات اللجنة العلمية أمر طبيعي، بل إنه الأصل، وهذا هو السائد في العالم بأسره، ونعاينه منذ اندلاع الجائحة، ولا توجد دولة كانت فيها توصيات اللجنة العلمية محط إجمال كلي، لأن الوباء أمر مستجد، وما تتوصل إليه اللجنة يبقى احتمالاً أقرب إلى الصواب من وجهة نظرها، ضمن احتمالاً أخرى موازية، بناءً على ما توفره الساحة من معطيات وبيانات ومؤشرات، وبعدها، تدلي برأيها العلمي لصناع القرار، ممن عليهم الأخذ بعين الاعتبار عدة محددات في سياق اتخاذ قرار يهم تدبير الجائحة، من قبيل المحددات الصحية والاقتصادية والاجتماعية، وهكذا الأمر عند الجميع، ولم نسمع قط عن إجماع حول رأي علمي صادر عن فلان أو علان، بدليل ما جرى مع حالة البروفيسور ديديي راؤول في فرنسا، والذي رغم شهرته العالمية، إلا أنه بقي محط انقسام في معرض تبني خلاصاته، بصرف النظر عن حالات تصفية الحسابات معه، فهذا موضوع آخر.
ولكن الاعتراض أو الاختلاف مع رأي اللجنة العلمية شيء، واتهام أو سب أعضاء اللجنة شيء آخر، وهذا ما لم يتفطن به صاحب الرأي أعلاه، هذا دون الحديث عن المعني هنا، عز الدين الإبراهيمي، الذي ترك مجالات أرحب في الاشتغال العلمي والمكاسب المالية، أي ترك الغرب الأمريكي، مفضلاً الكد محلياً هنا في المغرب، أرض الأصل والعائلة، مما جعله حاضراً في عدة مجالات، منها الاشتغال العلمي الصرف، لأنه مدير مختبر التكنولوجيا الحيوية، أو الحضور الرقمي عبر صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الحضور الذي يُفيد المتتبعين، من الإعلاميين والرأي العام، إلى درجة أن بعض مقالاته التي تنشر في صفحته، يتم نشرها في منابر إعلامية، إضافة إلى حضوره في وسائل الإعلام العمومية، من أجل الشرح والتوضيح وتبسيط عدة قضايا تهم الملف، وهذه نقطة هامة للتذكير، لأنه اتضح لاحقاً، أنه يحظى بما يصطلح عليه المغاربة بـ”القبول”، وهذا القبول للتذكير، مسألة خارج حدود العقل والمنطق، لأنها مسألة غيبية، أولاً وأخيراً، وهذه حكاية أخرى.
الاختلاف مع عز الدين الإبراهيمي والاعتراض عليه، مسألة عادية، ولكن شيطنته وترويج تلك الاتهامات مسألة غير طبيعية وتتجاوز قلة الأدب، وهذا أمر متوقع من وجهة نظرنا، لأن لقاء الشعبوية بالجهالة، صعب التفاعل معه، لولا أن الزمن النقدي يسجل كل شيء. “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. الآية.