الدكتور محمد التهامي الحراق يكتب: فِي التَّنْويريةِ المعطوبَة…
محمد التهامي الحراق
لا مراء أننا نحتاج، أكثر من أي وقت مضى في سياقنا العربي الإسلامي، إلى التنوير بأبعاده التحريرية الكونية فكرا وثقافة واجتماعا واقتصادا وسياسة. ويعَدُّ التنوير الفكري مفتاحا لا مناص منه لمراجعة كثير من الوثوقيات والانغلاقات التي تعوق انخراطنا الفعال والخلاق في الزمن المعرفي للحداثة. وإذا كانت روح التنوير يلخِّصُها مصطلحٌ مفتاح هو النقد، فإن أيَّ تحرير فكري لابد أن يتوسل بالنقد بما هو تفعيل للعقل المستقِلِّ عن كل وصاية، والمُراجِع بشكل دائم لبداهاتِه ومُخرجاتِه وأدواتِه وألوانِ قصوره. من هنا احتياج التنوير نفسه إلى مراجعة نقدية مستمرة؛ أو لنقل لا تنوير بدون المراجعة النقدية لمسارِ التنوير ذاته، وكل تفريط في هذه المراجعة يجعل هذا التنوير معطوبا، إذا استعرنا هذا النعت من المنظر والشاعر المغربي محمد بنيس في وصمه ووسمه للحداثة العربية بكونها “حداثة معطوبة”.
ولعل من أبرز مظاهر عطبِ خطاب التنوير في السياق العربي الإسلامي، عطبُ تعامله مع القرآن الكريم، بحيث يقع هذا التعامل في مغالطات وخيمة، من أبرزها عدمُ استيعاب جدلِ التعالي والتاريخ في النص القرآني، والميلُ إلى مقابلة التطرف الأصولاني الحرفِي في تلقيه، بتطرفٍ آخرَ هو التطرفُ الأصولاني التاريخي، بحيث يتمُّ التفريطُ في جدلِ التعالي والتاريخ الذي يشكل، في نظرنا، مفتاحا من مفاتيح استيعاب النص القرآني. على أن التفريط في هذا الجدل واحدٌ من اختلالات التنوير في السياق الأوربي، كما تشهد على ذلك المراجعات النقدية المعاصرة للعقلانية التنويرية.
من هذا المنطلق، سنقترب من نموذج لهذا التنوير المعطوب في سياقنا العربي الإسلامي؛ ونمثِّل له بأحد المفكرين التنويريين العرب، وهو الدكتور هاشم صالح، الباحث العميق والمترجِم الأنيق والتنويري اللامع، كما تُنبي عن ذلك ترجماتُه وحواراتهُ وكتاباتُه في التعريف بتاريخ ومُنجَز التنوير الأوروبي. ولابد من التذكير بأن عمل باحث ومترجِم مثل هاشم صالح عملٌ نفيس ورئيسٌ في توطين الحداثة في الثقافة العربية عبر التعريف والتقديم والترجمة، لا سيما إذا كان الكاتبُ ذا لغة عذبة وأسلوب سلس وقدرة على التلخيص وإعادة الكتابة بلغة حديثة رصينة وذات مقروئية لدى أوسع الفئات والأوساط الثقافية العربية المعاصرة. هذه المزايا وغيرُها هي التي دعتنا إلى المحاورة النقدية لهاشم صالح و”تنويريته”، خصوصا تلك المتصلة بالتعامل مع النص القرآني.
يكاد يختزل الأستاذ هاشم صالح الطريق إلى التنوير في تغليب “القراءة التاريخية” للقرآن الكريم على “التلاوة الشعائرية العبادية”، فالأولى بالنسبة إليه كاشفة محرِّرَة، فيما القراءة القداسية مُسَيِّجَةٌ للنص، مُجَمِّدَةٌ لمعناه في الحرف، مُلْغِيَّةٌ في فهمهِ التاريخَ ومستلزماتِه الأنتربولوجية والاجتماعية والثقافية. ولمَّا كان التعامل الحرفي التمجيدي الانغلاقي على ظاهر النص هو ديدنُ الأصولانيات “الداعشية” المختلِفة والمتفاوتة، كان السبيلُ إلى تحرير النص القرآني من قبضة هذه الأصولانيات هو “أَرْخَنَةُ” هذا النص المتعالي. ويعني بها هاشم صالح قراءةَ الآيات القرآنية ضمن مشروطيتها التاريخية ومعطياتِها الاجتماعية وحيثياتها الثقافية ومحدداتها الزمكانية خلال القرن السابع للميلاد في شبه الجزيرة العربية. فمن شأن هذه القراءة، حسب هاشم، أن تحرِّرَ النصَّ من القراءة الأصولانية “الداعشية”، وأن تُنَسِّبَ “آياتِ القتال والتكفير والعنف” الواردة في القرآن الكريم، وتبقيَ على “الآيات الأخلاقية والمعيارية الكونية” التي تحضُّ على السلام والسماحة والقبول بالآخر، وتدعو إلى حرية المعتقَد وتنفتح على مختلِف الأديانِ دون أن تحتكر الخَلَاص والنجاة. يكتب هاشم صالح: “ينبغي ربطُ جميع الآيات والسور بسياقها التاريخي في القرن السابع الميلادي وفي شبه الجزيرة العربية. وهذا يعني أن القرآن سينقسم عنذئذ إلى قسمين: آياتٌ كونية صالحة لكل زمان ومكان/ وآيات ظرفيةٌ عَرَضية مرتبطة بحيثياتها التاريخية؛ النوعُ الأول يشمل كل الآيات الروحانية والأخلاقية العالية الواردة في القرآن الكريم بكثرة لحسن الحظ، والنوعُ الثاني يشمل كل آيات التكفير والعنف والقتال. وهذا يعني عدمَ تعميم هذه الأخيرة على كل العصور كما تفعل الحركاتُ الداعشية المتطرفة التي تتلو الآية القرآنية قبل قطعِ رأس الرهينة المسكين بالسيف أو السكين. وهذا ما أدعوه بالتكفير اللاهوتي أو اللاهوت التكفيري في الإسلام”.
في ضوء هذا الفهم، ما يفتأ هاشم صالح يؤكد أن هذه العملية الأرخنية هي عملية تحريرية مصيرية حتمية، تشكِّل المَعْبَر الوحيد نحو التنوير ودخول عالم الحداثة، كما حصل في السياق التاريخي الأوروبي. وبدون هذه العملية القاسية والضرورية فإن المسلمين سيظلون أسارى “بارديغم العصور الوسطى”، يشكلون منبعَ الرعب والهلع للعالم باسم الدين الذي عنوانُه السلام، وباسم النبي الذي هو رحمةٌ للعالمين. كما لا يكِلُّ هاشم صالح من الدعوة بحماس لتبني هذه الأرخنة؛ منبِّها أنها لن تُهْلِك الإيمانَ ولن تدمِّر قداسَة القرآن، بل ستحرِّرُ هذا الإيمان كما حصل فِي المسيحية، حيث صار الإيمانُ الحديث يتعايش مع التعدد الديني والاختلاف العَقَدي، وينخرطُ في أسئلة الحداثة حول المعنى والزمان والإنسان والمصير والحقيقة ضمن أفق فلسفي حواري، تعدُّدي دون مُكابرةٍ أو دعوى إطلاقيةٍ أو تكبيلٍ للعقول والأرواح.
ربما كانت هذه القسماتُ من أبرز معالم تنويرية هاشم صالح في جُلِّ كتبه، ولا سيما منها كتابيه الأخريين: “لماذا يشتعل العالم العربي؟” و”العرب بين الأنوار الظلمات..محطات وإضاءات”. ولنا أن نسجلَ جملةَ ملاحظات نقدية تبرزُ أعطابَ هذه “التنويرية”، من بينها:
أ-لا إخال أن أي دعوة تنويرية ستكون مفيدةً إجرائيا، وهي تتقدم في مجال إيماني حسّاس، دون أن تمتلكَ من الأدواتِ والمفاهيم وآليات الاقتراب ما به تُقْنِعُ المؤمنَ بالأفق التحريري لهذا التنوير، وتدفعُ خوفَه من المصير التدميري الذي يتراءى له وهو يتلقى شظايا الأحكام القاسية على القرآن الكريم ولغتِه، و”الدين” السائدِ وأعلامِه. فإدراك “خطورة” العملية التنويرية يستلزمُ الاستعداد المعرفي والمنهاجي بل والروحاني لها، وإلا سيكون أثرُها عكسيا، ومفعولُها كارثيا؛ لأن الأمر لا يتعلقُ حصرا بأفكارٍ نظرية أو بترَفٍ معرفي أو بمتعة أدبية أو فنية أو برهانات إبداعية خاصة؛ بل يتعلق الأمرُ بحقل مفرِطِ الحساسية، يدركُ صديقُنا هاشم هولَ ما يتخلَّلُه مِنْ محاذيرَ وألغازٍ وألغام، ويحيطُ به من ضجيجٍ إيديولوجي مُرعِب جراء الوضعِ التاريخي والسياسي والثقافي والديموغرافي والاجتماعي والنفساني لكل بلدان العالم الإسلامي، بدءا من القرن الثالث عشر للميلاد، وتحديدا منذ استقلالات الدول الإسلامية “الحديثة” في القرن الماضي، وما تتخبط فيه من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية، وما يعانيه أغلبُها من مآزق في الشرعية ومزالق في بناء دول حديثة مستقِلّة، سواء حيال استتباعات موروثِ فترة الانحطاط في التاريخ الإسلامي، أو حيال ألوان الاستتباع للقوى الإمبريالية الغربية، والتي ما فتئت تُجدِّدُ هذا الاستتباع عبرَ سبل وقنوات وتقنيات هيمنية مبتَكَرة، نطرحها اليوم تحتَ عناوين أكثر تشذيبا مثل: “رهانات العولمة”، و”مسارات الاستهلاكية العالمية”، و”تحديات النيوليبرالية”..إلخ.
ب- إن النظر إلى تاريخ العرب والمسلمين بعيون التاريخ الأوروبي، والقولَ بحتميةِ عبورِ المسار التنويري العربي الإسلامي لنفسِ المراحل التاريخية والفكرية التي مرَّ منها التنوير الأوربي، هذا النظرُ الآخذُ بهذه الحتميةِ ليسَ أبدا مسلكا تنويريا؛ ذلك أنه لا ينظرُ إلى التاريخ في حيويته وتعدده وانفتاحِ صيروراته؛ بل هو نظرٌ “تاريخاني” لا “تاريخي”، يُسْقِط مساراً على آخرا، وينظرُ بحجاب تجربةٍ إلى أخرى، ويفرِضُ خبرةً تاريخية مخصوصة على غيرِها باسم كونيةٍ موهومة، وباسم فهمٍ لا تاريخي لـ”سُنَنِ التاريخ”. الأمر الذي جعل هذا النظرَ “يَعْمَى” عن استكشافِ خصوصية المسارِ التاريخي العربي الإسلامي؛ و”يَقصُرُ” عن اقتراح رؤيةٍ تنويرية تلائِم، من جهة أولى، النصَّ القرآني المختلِفَ طبيعةً ووظيفةً وتاريخًا عن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؛ وتلائم، من جهة ثانية، المعالمَ المخصوصة للتاريخ العربي الإسلامي الذي لم يشهد قرونًا وسطى بالمعنى الأوربي؛ بل شهد عصرا كلاسيكيا مُزدهِراً ومنتِجاً وخلَّاقا على المستويات المعرفية والفلسفية والإبداعية، مما اعتُبِرَ “إنسيةً عربيةً إسلامية” ما فتئ هاشم صالح يذكِّر بها، وبفتوحاتِ أستاذه المفكّر محمد أركون في إبرازها؛ وتلائم تلك الرؤية، من جهة ثالثة، الأفقَ التنويري المنشودَ اليوم في تاريخ الإسلام، بعد المزالق والمآزق والإحراجات وأنواع الخيانات التي وقع فيها التنويرُ الأوربي، ليس فقط اجتماعيا وسياسيا ومعرفيا؛ بل أساسا في التعامل مع التعالي والروحانية والقداسة، أعني ما صار يُعرف في مرحلة ما بعد الحداثة بـ “أزمة المعنى” وعواقبها الوخيمة على مختلف الصُّعد والمستويات.
إن الأمرَ، كما هو بادٍ وموصوفٌ هنا، يستلزم “نقدا مزدَوِجا” بلغة الكبيرعبد الكبير الخطيبي؛ نقدَ الفكر الإسلامي ومطباتِه ومآزقه، وكذا نقدَ الفكر الأوربي أو الغربي ومطباته ومآزقه. وكلُّ تنويرٍ لا يعتبرُ بالتاريخ، ويُدينُ المغالطةَ التاريخية ثم يقعُ فيها، ولا يحمِل “مطرقةَ” النقد حيالَ تاريخ التنوير الأوربي ذاتِه وهو يريد استكشافَ مسار تنويري في الفكر الإسلامي؛ كلُّ تنوير لا يأخذ بهذه “الإضاءات” يُعَدُّ تنويرا مَعْطُوبًا، من شأنه إتاحةُ مسافاتٍ أرحبَ لأشكال أخرى من حلكةِ الأصولانية وظّلام التعصب والتطرف.
ج- طلبا للإيضاح، نقترب أكثر من بعض التفاصيل. يذهبُ الأستاذ هاشم صالح، كما مرَّ معنا في نص سابق، إلى أن آياتِ القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين: آياتٍ كونية صالحة لكل زمان ومكان، وآياتٍ تاريخية ظرفية تنتهي صلاحيتُها بانتهاء مشروطيتها التاريخية والاجتماعية، ويرى أن الآياتِ الأولى هي التي تُشَكِّل مدارَ “القرآنِ التنويري” لِما تحتويه من قيم السماحة والحرية والتعدّد والحوار والقبول الآخر، والثانية هي التي تُشَكِّل مدار “القرآن التكفيري؟؟” لما تحتويه من قيم الإقصاء والإلغاء والتكفير والقتال والتنكيل العنيف بالمختلِف. وإذا كان القدماء، حسب هاشم صالح، قد “نسخُوا” آيات التسامح بآيات التكفير، فمن شأن “الأرخنة”، أي ربط آيات التكفير بسياقها الصراعي التاريخي بين المسلمين والفئات الاجتماعية المناهِضة للدعوة المحمدية، أن يؤدي إلى “نسخٍ تاريخي عكسي”، بحيث “تنسخُ” آياتُ التنوير آياتِ التكفير، وهذا هو المطلوب، يكتُب: “ينبغي أن نعكس عملية النسخ كليا على ذاتها. بمعنى أن آيات التسامح تُصبح هي الناسخة لا المنسوخة. ينبغي أن ننسخ كلَّ آيات التكفير والعنف من قبل آيات التسامح والسلم”.
غير أن الأمر ليس بهذه البساطةِ، حتى لا أقول بهذا العرْض التسطيحي، فهل معنى ذلك أن نُلغي ما يسميه هاشم صالح “آيات التكفير” من القرآن الكريم؟ أليست هذه هي نفسُ الدعوة التي كان قد أطلقَها فيليب فال، المدير السابق لمجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية الساخرة، في مقال له في صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية الأحد 22 أبريل 2018، حين نادى بحذفِ آيات من القرآن تدعو، من وجهة نظره، لقتال اليهود والمسيحيين، واستطاع أن يجمع ما يقارب 300 توقيع دعما لدعوته؟؟ ثم مَن هذا الذي يستطيعُ أن يميِّز في النص القرآني، بشكل جازم وحازم ومطلقٍ وقطعي، بين “آيات التنوير” و”آيات التكفير”؟؟ وأي معيار معرفي أو تاريخي كفيل بتحقيق ذلك؟؟ خصوصا ونحن نعلم أن ترتيبَ الآياتِ في النصِّ القرآني اتخذ بُعْدا “توقيفيا” لا يَعْتبر بالترتيب “الكرونولوجي” للآيات، وأسَّس بذلك لمسارٍ في التأويل، ولأفقٍ في التلقّي، ولنسقيةٍ قرآنية متميزةٍ دلاليا وتعبُّدِيّا وروحانيا، مما لم ينتبهْ إليه هاشم صالح في تحليلهِ “التنويري”، أو قل ينتمِي إلى دائرة “اللامفكر فيه” عنده إذا استعملنا لغةَ أستاذهِ المرحومِ محمد أركون. ها هنا يبرز تهافتُ التمييزِ المُنَاقِضِ بين “التلاوة الشعائرية” و”القراءة التاريخية” في التعامل مع القرآن الكريم؛ فالأولى تعتمد الآفاق الروحانية الوجدانية التنسكية التي يتيحها التلقي الشعائري لكلِّيَّة الآيات القرآنية ضمن الأفق الإيماني التعبدي، وهو التلقي الذي لا يلغي “العقلَ”، لكنه يستعمله في إطار جدلية التاريخ والتعالي، الغيب والشهادة، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم بمفهوم “التدبر”؛ فيما القراءة التاريخية، وهي توثِّنُ التاريخَ وتُلغي آيات قرآنية لم تستطع اكتشافَ “تنويريتها”، تقع في محظور منهاجي فادح، وهو تفكيكُ وحدةِ النص القرآني وتشظيتُهُ و”تعضيَّتُه”، ومن ثم نسفُ وظائفه الروحانية والإيمانية والتنسّكية باسم التاريخ، الأمرُ الذي يُفضي ضرورة إلى تبديدِ الإيمان وتدميرهِ بدل تنويرِه وتحريره.
د- لإضاءة ما سبق، يمكن أن نسجِّل مثلا كيف أن هاشم صالح، وهو يمجِّدُ الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي وينتصر لـ “تنويريته”، لم ينتبه إلى الأفق العرفاني الخلّاق في التعامل مع الآيات القرآنية بإجمال؛ ومع الآيات التي وسمها بـ “آيات التكفير” تعيينًا، وكيف يتم تحريرها من الدلالاتِ الحصريةِ التاريخيةِ دون إلغاءِ ما فيها من نصيب نوراني روحاني وحياني. وهذا واحدٌ من فتوحات القراءة العرفانية للقرآن الكريم التي مدخلُها إيماني وشعائري، لكن هاشم صالح ينحجبُ عنها حين يُناقِضُ بين “القراءة الشعائرية” و”القراءة التاريخية”، وحين يَقْصًر التنوير والتحرير على هاته دون تلك. ولو رجع هاشم صالح، مثلا، إلى الكشفِ التأويلي التنويري الذي يقدمه الشيخ الأكبر لمفهوم “الكُفر”، من مدخل فيلولوجي عرفاني، لاكتشفَ أن المُشكلَ ليس في الآيات الكريمةِ بل فِي طريقة فهمِها، وأنَّ الحلَّ ليسَ في إلغائها باسمِ التاريخ، أو في “أرخنتها” و”نسخِها”؛ بل في قراءتها ضمنَ نسقيتها النورانية القرآنية التي تحتفِي بجدلِ التاريخ والتعالي. إنه الجدلُ الذي بدونه لن يفهم القارئ توالُجَ وتواشج آياتِ المستوى الغيبي الشعائري والمستوى التاريخي التشريعي والمستوى القيمي الأخلاقِي في النسيج الوحياني القرآني.
لنُلمع إلى مثال آخر يبرز عطبَ التنوير حين يفتقد لاستعياب الجدل المذكور بين التعالي والتاريخ في الوحي. يناقش هاشم صالح مقولة القرآن الكريم ككلام إلهي ويقارن بينه وبين الشعر، فيستحضر رأي عند الوهاب المؤدب قائلا: ” يرى عبد الوهاب المؤدب أن النبي أو القرآن كان يرى في الشعراء منافسين خطرين عليه، ولذلك هاجمهم وحذر المؤمنين منهم، كان يخشى أن تختلط عليهم شاعرية القرآن بشاعرية الشعراء” .
مثلُ هذا القول نموذجٌ واضح للأحكام غير الرصينة معرفيا و”تنويريا”؛ إذ لا أعتقدُ أنه يمكن إقناع مؤمن بخطاب “تنويري” بهذه الملامح؛ خطابٍ لا يراعي جدلية التعالي والتاريخ، ويقدم أحكاما متهافتة علمًا وتاريخا وروحانية. وكان يكفي الأستاذين هاشم صالح و قبلَه عبد الوهاب المؤدب الذي يعرفُ الأفق الشعري الأكبري، وهما معا يشيدَان بـ”تنويرية” ابن العربي، أن يرجعا إلى مقدمته في “ديوان المعارف الإلهية” ليقفا على العمق الأنطلوجي لمفهوم الشعر، وعلى الرؤية الأكبرية التنويرية لعلاقة النبي الكريم بالشعر وامتناعه عنه. يقول الشيخ الأكبر: “وما مُنِع النبي منه لهوانه، ولا لانحطاط مكانته ومكانه، لكن لما كان مبنيا على الإشارات والرموز، فإنه من الشعور، والمطلوب من الرسول البيان للكافة بأوضح العبارات، لهذا لم يجئ به الرسول، فما قال تعالى: “وَمَا علَّمْنَاهُ الشِّعْرَ”(يس:69) إلا لأجل قولهم إنه شاعر، فأخبر الله –تعالى- أن الذي جاء به من عند الله وعلمه، إنما هو “ذِكْرٌ وَقُرآنٌ مُبِينٌ” (يس:69)، ما هو شعر كما زعمتم، وما في هذا ذم للشعر ولا حمد، وإنما جاء ليبين ما أُرْسل به، فهو إنباء وحقيقة”. ومن ثَمَّ لا مجال أصلا للحديث عن صراع أو تنافس بين النبي الكريم وبين الشعراء، وأي رؤية تحليلية تأخذ في اعتبارها جدل التاريخ والتعالي كفيلة بأن تقدم مقاربة مغايرة لعلاقة “كلام الله” بـ”الشعر”، وعلاقة النبي بالشعراء.
خلاصة القول، إن الدعوة إلى “أرخنة” القرآن الكريم هي تنويرية حداثية معطوبة، مثلما أنَّ كل قراءة إيمانيةَ للوحي تُلغي التاريخ هي تنويرية إيمانية معطوية. فيما التنويرية المُنتِجَة، في نظرنا، هي تلك التي تنظرُ في جدلية الوحي والتاريخ، وترى إلى القرآن الكريم في مساره العمُودي في علاقة الآيات المنزَلة بالوقائع والأحداث والتاريخ (أسباب النزول والسياق التاريخي والثقافي والأنتروبولوجي لنزول الوحي)، ثم ترى إلى القرآن الكريم في مساره الأفقي في علاقة الآيات المُنزَلة فيما بينها ضمن نسيج البنية الكلية للآيات القرآنية، وقد رُتِّبَتْ ترتيبا توقيفيا، يفتح دلالاتِ الآيات على “العجائب التي لا تنقضي” حسب الحديث النبوي الشريف. وهنا أسجّل أنني أفهم عدمَ انقضاء العجائب القرآنية بقدرة الآيات على تجاوزِ محدوديتها الدلالية بشكل مستمر، بحيث تُحقِّقُ الإدهاشَ والإعجابَ للمتلقي المتجدد، بحسب تجدُّدِ أسقف معارفه، وباراديغمات تلقيه في مختلِف الأزمنة والأمكنة؛ مما يعني الولادةَ المتجددة لدلالاتِ النص بشكل يحققُ الإعجاب والإذهال الدائمين. وهذه واحدة من علامات كونية القرآن الكريم و”ألوهيته”، التي تُضيعها القراءة التاريخية المتطرفة، مثلما تضيعها القراءةُ الحرفية المتطرفة. فيما يُسهم الميراث العرفاني في التحرير من التطرفين، بشرط استعادتِه استعادة نقدية، وذلك ضمن نقد مزدوجٍ للتقليد والحداثة، يتجاوز أعطابَ انغلاقاتِ التقليد وانحرافاتِ الحداثة، ويُسهِم في التأسيس لتنويرية عقلانية روحانية، حيث الأنوارُ قط لا تتزاحم.