غير مصنف

“صدمة الحداثة” مستمرة مع زيارة البابا والثقب الأسود

د. منتصر حمادة

كأنه مكتوب على شعوب المنطقة العربية بالذات، ومنها بعض شعوب المجال الإسلامي، من طنجة إلى جاكارتا، عدم التحرر من لازمة "صدمة الحداثة"، والتي نمرّ منها منذ قرون مضت، مع فارق في تحديد أهم محطاتها التاريخية، بين ما يعتبر أن أولى محطاتها جاءت مع أفول الطفرة الحضارية الأندلسية، أو من يرى أنها مرتبطة بأفول "الخلافة العثمانية" التي انتهت إلى زوال، وهناك من يُحيل على صدمة غزو نابليون لمصر، وغيرها من المحطات.

ولكن الشاهد هنا، أنه منذ مرحلة حصول أغلب دول المنطقة على الاستقلال السيادي (السياسي والاقتصادي وغيره) عن المستعمِر، وحتى اليوم، لا زالت مؤشرات التنمية تلخص بشكل كبير الأداء الحضاري لهذه الدول، ونتحدث عن الأداء الحضاري لكل دولة من جهة، موازاة مع الأداء الحضاري لشعوب ودول المنطقة. وجاءت أحداث "الفوضى الخلاقة" أو "الربيع العربي"، ابتداءً من يناير 2011، لتُعقد الأوضاع أكثر، على غرار التعقيد الذي يطال الأوضاع في الجزائر والسودان هذه الأيام بالذات.

في ثنايا هذه التطورات، تأبى أحداث الساعة، العالمية والمحلية، إلا أن تكرس استمرارية ضرائب اللازمة سالفة الذكر، أي ضريبة التأخر في طرق باب الحداثة، والمساهمة مع باقي شعوب المنطقة في إنتاج ما ينفع الناس من نظر وعمل، ونحن مؤهلون لذلك فعلاً، كما تشهد على ذلك التجربة التاريخية من جهة، وكما تعج بذلك النصوص المؤسسة في الساحة من جهة ثانية.

عاينا خلال الأسبوعين الماضيين حدثان يُصنفان في خانة ضرائب "صدمة الحداثة"، ضمن أحداث أخرى هنا وهناك:

ــ جاء الأول مع طبيعة تفاعل العديد من أقلام الساحة المغربية والعربية مع حفل فني عابر، احتضنه معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، بمناسبة زيارة بابا الفاتيكان للمغرب (بين 30 و31 مارس 2019)، ويتعلق الأمر بأنشودة روحية، شارك فيها مطربون من الديانات الإبراهيمية الثلاث، وصدرت التفاعلات النقدية والمنتصرة للمراهقة والجهالة، عن أقلام إسلاموية، وإن كان هذا أمر متوقع بمقتضى المرجعية الدينية الطائفية لهذه الظواهر المجتمعية؛ وصدرت أيضاً عن أقلام شعبوية، وهذا أمر متوقع في زمن ارتفاع أسهم الشعبوية على الصعيد العالمي وليس المحلي وحسب، إلى درجة أن العديد من المجلات الفكرية الغربية (الأمريكية والأوربية على الخصوص)، نشرت عدة ملفات عن الظاهرة خلال السنين الأخيرة؛ وصدرت أيضاً ــ بيت القصيد ــ عن أقلام كنا نحسبها مُحصنة بشكل أو بآخر من مشاريع "غسيل الدماغ" الذي تعرضت له المنطقة خلال العقود الأخيرة، ولكن اتضح أن هذا الاعتقاد غير سوي، أو فاسد، لأنه يتأكد للجميع اليوم أن نسبة لا بأس بها من "النخبة" بلْه العامة، أصيبت بدورها ببعض ضرائب غسيل الدماغ إياه، ومن باب أولى، أن تكون معنية بتأدية ضرائب التأخر في طرق باب الحداثة المأمولة.

ــ جاء الحدث الثاني مع ما جرى يوم الأربعاء 10 أبريل 2019، وهو يوم تاريخي ومفصلي في تاريخ العلوم الفيزيائية والرياضية وعلوم الفلك على الخصوص. الحديث هنا عن تمكن علماء فلك من التقاط أول صورة على الإطلاق للثقب أسود الذي يقع في مجرة بعيدة، حيث تبلغ مساحة الثقب 40 مليار كيلومتر، وحسب أولى المعطيات التي صدرت في الموضوع، فإن الثقب المعني يبعد 500 كوادريليون كيلومتر عن الأرض (كوادريليون يعادل مليون ترليون)، واشترك في تصويره شبكة من ثمانية تلسكوبات في جميع أنحاء العالم.

علينا أن نعترف، بأن يوم أمس، كان يوماً حزيناً على الجميع، على عقلنا الجمعي، لأن ذلك الحدث العلمي ليس مجرد واقعة علمية عابرة أو عادية في تاريخ العلوم، وقبل تاريخ انفتاح العقل البشري، منذ آدم عليه السلام حتى اليوم، في انتظار ما سيأتي به المستقبل.
ما جرى أمس أمر مرتبط بتراكمات علمية منذ قرون (تجارب، نظريات، اختبارات، نكسات، نجاحات… إلخ)، دون الحديث عن عدد لا يُحصى من المؤلفات والمحاضرات والندوات التي خُصصت لهذه التطورات، بل إن مجرد أطروحة تشارلز داروين حول "أصل الأنواع"، أسالت الكثير من المداد، سواء كان لغواً أو مراهقة فكرية، صادرة في العديد من المجالات الثقافية، ومنها مجالنا الثقافي، أو كانت اجتهادات نظرية وازنة، تؤيد أو تختلف مع اجتهاد داروين، ولنا أن نتخيل ما جرى مع باقي الاكتشافات والنظريات.

كان يوماً حزيناً على عقلنا الجمعي، وعلينا الإقرار بذلك، من باب الانتصار للقليل من النقد الذاتي.

ليس صدفة، أن علم الفلك، وابتداءً من يوم أمس، طرق مرحلة ما بعد التصوير الحي للثقب الأسود، بعد أن كان هذا التصوير مجرد نظريات متراكمة، بعضها فوق بعض، ومنها أعمال ألبرت أينشتاين وستيفن هوكينغ وغيرهم، وبعد أن انتقلت إلى صور علمية، ولكنها افتراضية، أقرب إلى الحقيقة، موازاة مع الانتقال إلى مقام العمل السينمائي، إلى درجة أن التفاعلات الرقمية مع حدث أمس، استحضرت بعض مضامين فيلم "إنترستيلر" [أو "بين النجوم"] وصدر في 2014.

نحتاج إلى جرعات كبيرة من التفكر والتأمل في معرض قراءة تبعات وتطورات هذه الأحداث العلمية التاريخية، ومن هنا أهمية التوقف عند الأسماء الفكرية المحلية والإقليمية التي تشتغل على قضايا الحداثة والتنوير والحضارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 + خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى