سعيد شبار: الطريق الثالث في الإصلاح المعرفي
د. منتصر حمادة
سعيد شبار، حالة خاصة جداً في العمل الديني الخاص بالمؤسسات الدينية في الساحة المغربية والعربية والإسلامية، وبيان ذلك، أن الرجل يشتغل في مجال الفكر أولاً، والتدريس، لأنه أستاذ جامعي في أستاذ الفكر الإسلامي بكلية الآداب بني ملال التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، ويترأس في آن، مؤسسة علمية، وهي مؤسسة المجلس العلمي المحلي ببني ملال، والتابعة لمؤسسة المجلس الأعلى الذي يترأسه ملك البلاد، عبر مؤسسة إمارة المؤمنين.
وأوضح أنه في مثل هذه الحالات، يصعب التوفيق بين الأداء النوعي في المجالات الثلاثة، وإذا استثنينا إمكانية التوفيق في الأداء بين العمل في المؤسسة الجامعية والتأليف في مجال الفكر، كما هو قائم مع مجموعة من الأسماء، فإن الأمر يُصبح صعباً عندما نضيف مهمة جديدة، وهي رئاسة مؤسسة علمية دينية. ولكن هذه الصعوبة تقاوم بشكل أو بآخر من طرف سعيد شبار، والنتيجة، هي أننا نعتبره حالة خاصة في الساحة الدينية والفكرية في آن، هذا إن لم نذهب إلى أنه مؤهل ليكون باباً من أبواب الاشتغال على فلسفة الدين التي نعاني خصاصاً كبيراً فيها.
في مقالة سابقة نشرت في هذا الموقع بالتحديد، أي موقع "الدار"، بعنوان: "الإصلاح الديني عبر جرعات"، توقفنا عند دلالة صمت علماء وفقهاء أغلب المؤسسات الدينية، على هامش زيارة بابا الفاتيكان للمغرب (بين 30 و31 مارس 2019)، وأشرنا حينها إلى أنه من بين 84 مجلس علمي محلي، وحده سعيد شبار، امتلك جرأة علمية متوقعة، ونشر مقالاً في سياق التفاعل النظري مع الزيارة، بينما بقي الباقي يتفرج، كما لو أنه غير معني بهذا التفاعل.
في سياق صيانة أداء المؤسسة العلمية التي يقودها ببني ملال، لا يتردد في تنظيم مؤتمر علمي سنوي، وإصدار مجلة فكرية، وفي الحالتين معاً، نحن إزاء مبادرات نادرة مقارنة مع ما يصدر عن باقي المجالس العلمية المحلية، والتي تنظم بعض الندوات والمؤتمرات، ولكن لا يصل الأمر إلى الالتزام بتنظيم مؤتمر سنوي قار، وإصدار مجلة فكرية محترمة.
هذا عن سعيد شبار، رئيس المجلس العلمي المحلي ببني ملال، ونأـي الآن إلى سعيد شبار الأستاذ الجامعي، حيث لا تمر سنة في التدريس دون إشرافه على تنظيم مؤتمر سنوي قار، ينتصر لقضايا تجديد الخطاب الديني والفكري، بشكل أو بآخر، من خلال الاحتفال بعدة أسماء، من عدة مرجعيات، وواضح أنه لو كان سعيد شبار، ينتصر لخطاب إيديولوجي ما، ما كنا نُعاين هذا التنوع في الأداء والتفاعل مع الأسماء البحثية هنا وهناك.
بل نذهب إلى أن شبار يُصنف ــ إن صح الحديث عن تصنيف ــ في إطار "تيار معرفي ثالث"، تحتاج إليه المنطقة والمجال الإسلامي بشكل عام، وهو الأصل في الواقع، بمعنى خيار بديل للخطابات التراثية التقليدية، والخطاب الحداثية المعاصرة، والتي أفرزت لنا مجموعة من المشاريع الإيديولوجية، بقيت شاذة ثقافياً عن هوية وأصالة مجتمعات المنطقة العربية والإسلامية.
نأتي لسعيد شبار المفكر، وتشهد له بذلك مجموعة كبيرة من الإصدارات، نذكر منها ثلاثة على سبيل المثال لا الحصر: "الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية"، "النخبة والهوية والإيديولوجيا"، أو كتابه الأخير الذي يحمل عنوان: "حوارات من أجل الذكرى والذاكرة حول قضايا في الفكر العربي والإسلامي والغربي"، وصدر في 2017.
يتحسر شبار كثيراً على سيادة لائحة من التقابلات الوهمية والزائفة في الساحة الفكرية العربية والإسلامية، غذتها، من وجهة نظره، مؤثرات خارجية قديمًا وحديثاً، وتأسست بذلك عوامل من الفرقة والتجزئة المذهبية والطائفية الضيقة في مدارس واتجاهات قائمة بذاتها، تنتمي إلى أحد طرفي معادلة ابتدأت بـ"أهل الرأي وأهل الأثر"، و"العقل والنقل"، و"الحكمة والشريعة"، وتبلورت إلى "العلم والدين"، و"الدين والدولة"، و"التراث والتجديد"، و"الأصالة والمعاصرة"، و"الحداثة والتقليد"، واللائحة مرشحة للمزيد.
أما مرد هذه التقابلات، فمرتبطة بمناهج التأريخ والدراسة للفكر الإسلامي بمذاهبه الفقهية والعقائدية وتياراته الفكرية والفلسفية، على وجه التحديد، والإحالة على مذاهب لم تعمل على إحياء وإنضاج "ثقافة الوحدة" المؤطرة للخلاف والمستوعِبة له، بقدر ما أرخت لـ"الفرق بين الفرق" ولـ"الملل والنحل" وتعمقت في أسباب الخلاف تأصيلاً وتفريعاً. أما معالم التجديد الشامل الذي يُحيي تكاليف الأمة الجماعية، كما سَطّر بعض معالمها المؤلف في أحدث أعماله، منطلقًا مما يُشبه مًسلّمة لا زالت غائبة عند العديد من إيديولوجيات الساحة، ومفادها أن الأصل في العلوم الإسلامية كونها نشأت ابتداءً من الوحي، وبينها وحدة عضوية موضوعية لوحدة الأصل والمصدر، وأن الخيط الكلي الناظم لكل هذه العلوم [بيت القصيد] ينبغي أن يعكس تكالمها ودورانها مع الأصل حيث دار.
لسعيد شبار عدة وقفات استطلاعية ونقدية مع مجموعة من أعلام الإصلاح في المجال الحضاري الإسلامي، بما في ذلك وقفات مع المعيقات التي حالت دون التأسيس لإصلاح ديني، ولخصها في حتمية التمييز بين الأصول المؤسِّسة للمعرفة وتلك التي أسستها المعرفة، إذ تحولت كثير من المقررات المذهبية والفرقية إلى أصول نائبة عن الأصول وحلت محلها، بل يرى أن العديد من حركات الإصلاح والتغيير أخطأت موعدها مع الدين ومع سُنَن ومسالك التغيير التي ينص عليها، وإن تحدثت باسمه ورفعته شعاراً وأفكاراً. ولهذا كانت مقولة "العودة إلى الدين" دائماً على رأس بنود الإصلاح، دون تحديد "كيف" تتم تلك العودة، وما هي مداخلها ومراحلها، وأصولها وفروعها، وأولوياتها وارتباطاتها وامتداداتها… إلخ. إذ غالباً ما نجد مشروع "الإصلاح" ينتهي إلى نزال سياسي معين، ومقاربة جزئية ضيقة، لا تكاد توحد وتؤطر أصحابها فكيف تفعل ذلك بمن حول أصحابها أو أبعد منهم؟
هذه مجرد إشارات من باب تكريس القليل من ثقافة الاعتراف في حق أحد أعلام المغرب الأقصى، المفكر الإصلاحي سعيد شبار.