غير مصنف

أحمد الخمليشي والإصلاح من داخل المؤسسات الدينية

د. منتصر حمادة

عندما يُذكر إسم أحمد الخمليشي في الساحة المغربية والمغاربية، فالإحالة على أحد رموز الإصلاح من داخل المؤسسة الدينية، والحديث هنا عن مؤسسة دار الحديث الحسنية التي تأسست في فاتح نونبر 1964 تفعيلاً لمقتضيات خطاب ملكي ألقاه الملك الحسن الثاني في جمع من العلماء المشاركين في الدروس الحسنية، حيث أبرز الخطاب الهدف من خلق هذه المؤسسة؛ يروم "تكوين علماء راسخي القدم في الحديث النبوي الشريف وفي العلوم الشرعية عموماً، وذلك استباقاً للفراغ العلمي الذي يحدثه رحيل كبار العلماء، وإحساساً بحاجة المجتمع المغربي ومؤسسات الدولة إلى متخصصين أكفاء في العلوم الإسلامية"، كما حَدّد المرسوم الملكي المؤسس لدار الحديث الحسنية مهام الدار في إنماء التعليم العالي والبحث في العلوم الإسلامية، وتتميم تكوين الموظفين والطلبة في علم الحديث، ولو أن هذا الطموح كانت له بعض الآثار السلبية لاحقاً، لعل أهمها ظهور مجموعة من المشاريع الإسلامية الحركية (سلفية، إخوان، جهادية..)، بصرف النظر عن الجانب المضيء من الظاهرة، ونقصد به ظهور مجموعة من المفكرين والباحثين، لولا أن أغلبهم اليوم يلتزم الصمت ولا يُحرك ساكناً في ما تتعرض له الدولة من تحديات محلية وإقليمية، مقابل انخراط البعض الآخر في الكد والعمل وما يُشبه المقاومة، دفاعاً عن المصالح العليا الوطن، ونستحضر هنا مجموعة من الأسماء الفكرية النوعية.

ارتبط إسم المؤسسة في عهد الملك محمد السادس بباسم أحمد الخمليشي، الملقب من طرف إسلاميي الساحة بـ"فقيه الاشتراكيين"، وهو نقد مؤسس على مرجعية إيديولوجية، ومرد ذلك أنه كان ينشر مقالاته في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، ويكاد يكون الخمليشي، في الإنتاج المعرفي حالة فريدة، مقارنة مع باقي المسؤولين في المؤسسات الدينية الأخرى، ولا ينافسه في هذا المقام إلا أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بمقتضى عدته العلمية في التاريخ والتصوف وأيضاً عدته الإبداعية في مجال الرواية. وليس صدفة أن يكون الخمليشي، المسؤول الديني الوحيد الذي حَرَّرَ رداً علمياً على "فتوى"أسالت الكثير من المداد، والحديث هنا عن رأي للداعية السلفي الوهابي محمد المغراوي، بخصوص أحقية زواج بنت التسع سنوات.

للخمليشي مجموعة من الإصدارات النوعية في الاجتهاد الفقهي، تنهل "من لحظة السياق المغربي براهنه وتطلعاته، وتستحضر برؤية تركيبية مجموعة من المحددات لها دورها في تشكيل المعنى، كالإطار المرجعي للحقل الديني، وطبيعة التدافع، والمعمار الفقهي". والإحالة هنا على سلسلة من الأعمال التي صدرت عن دار نشر "الزمن"، ضمن مشروع "وجهة نظر"، وهي ـ برأي أحد المتتبعين عن قرب لمشروع مدير دار الحديث الحسنية ـ "تواصل القول بصوت مرفوع في راهن الحقل الديني في مستوى الفتوى والاجتهاد، والتدريس الفقهي، ومحاولات الاختراق للمنظومة القانونية لإصلاحات مدونة الأسرة. هذا الصوت له مغزى في وجهين: وجه انبثاق الخطاب الإصلاحي من داخل المؤسسة الرسمية، ووجه صلابة الإرادة المعبر عنها في مواجهة جيوب مناهضي الإصلاح".

من هنا تكمن أهمية تعيين أمثال الخمليشي في قيادة مثل هذه المؤسسات الدينية، على أمل أن يتم تعيين أسماء أخرى في السياق ذاته مع باقي المؤسسات، وقد اعتبر الخمليشي حينها، على هامش التعيين، أنه "منذ سنة 2005، كانت لإعادة النظر في التكوين في هذه المؤسسة رؤية أعمق من ذي قبل وأدخل تغييراً جوهرياً على التكوين في المؤسسة، وهو ما ينتظر أن تكون له نتائج فيما بعد، فمن جهة، أصبح التكوين منفتحاً على مواد تساعد الطالب على تغيير نظره إلى المعلومات التي يتلقاها، بمعنى أنه يتلقاها وهو مدفوع بالتقييم وبإثارة الأسئلة. هذه المواد التي نطلق عليها مواد العلوم الإنسانية (فلسفة، منطق، علم الاجتماع، قانون، تاريخ، مقارنة الأديان وتاريخها) يبدو أنها تجعل الطالب المكون يكون دائماً مدفوعاً بهاجس البحث عن الاستفادة مما يتلقاه، وهذا يدفعه إلى تقييم المعلومة، التي يلقنها له الأستاذ وإلى إثارة الأسئلة حولها، وهذا ما كنا نفتقده في الدراسات الإسلامية، التي كانت تركز أساساً على المعلومة ذاتها، أي على جعل الطالب يتلقى أكبر عدد ممكن من المعلومات دون العناية برد فعله وتقييم هذه المعلومة، التي يتلقاها، وإثارة التساؤلات حولها، والبحث عن الجواب عن هذه الأسئلة. وينتج عن ذلك، بصورة أساسية، أن الطالب يتلقى المعلومات دون أن يتمكن من استعمالها. ونقصد بالاستعمال التقييم وإنتاج معرفة أخرى بسبب هذا التقييم. كل ما كان يستعمله الدارس فيما قبل هو أن يعيد نفس المعلومة، بمعنى أنه إذا كان يتلقى معلومات في مجال معين، في أصول الفقه أو في الفقه ذاته، فكل ما ينتظر منه أن يعيد إنتاج ما تلقاه".

ليس صدفة، أنه مؤسسة دار الحديث الحسنية، احتضنت يوم الثلاثاء 30 أبريل 2019، يوماً دراسياً بعنوان: "مناهج تدريس الأديان بين مؤسسة دار الحديث الحسنية ومؤسسات تدريس الأديان بالغرب"، في ما يُشبه سابقة من نوعها في الساحة المغربية، لأن الأمر يتعلق بمؤسسة دينية، ومن النادر أن تنظم مؤسسة دينية في المنطقة مثل هذه المواضيع بسبب رياح التديّن التقليدي التي هبت على الجميع خلال العقود الأخيرة بعد الطفرة النفطية، ولكن، فكرة اللقاء التي جاءت بها الأستاذ يوسف الكلام، وهو أستاذ جامعي بالمؤسسة ذاتها، لم يعترض عليها قط أحمد الخمليشي، الذي صرّح في الجلسة الافتتاحية أن هذا اللقاء العلمي "يُعدُّ لبنة من لبنات البحث في هذه المؤسسة، وموضوعه في الوقت الحاضر له أهمية قصوى في الدراسات الدينية، خصوصاً وأنه من الموضوعات الدقيقة التي لا تزال مهملة من الجانب النقدي والعلمي في أغلب مؤسسات الدراسات الإسلامية في العالم الإسلامي"، مضيفاً أنه "إذا كانت هناك دراسات من هذا النوع في الجامعات الغربية فإنها لم تنتقل إلى جامعاتنا، لأن هذه الأخيرة لا تزال مُكبلة بهاجس النقل، وما تزال أمينة لهذا النوع من التكوين، وتعاني من غياب النقد وغياب التأكد من الروايات"، معتبراً أن "إعادة هيكلة المؤسسة كان بهدف تدشين مرحلة جديدة، يرجى من ورائها أن تكون خطوة رشيدة لتجاوز هذا الوضع، وتكون محاولة لتلقي المعلومات والروايات بحاسة النقد واستعمال المنطق، ومن هذا الباب أدرج في برامج المؤسسة مادة مقارنة الأديان إلى جانب العلوم الاجتماعية والإنسانية، باعتبار هذه المواد قادرة على تزويد الطالب بحاسة النقد والتأكد من المعلومات التي يتلقاها، فهي خطوة أساسية ترتقي بالدراسات الدينية حتى تكون في مستوى نظيراتها التي نشاهدها في العالم، ليست الخاصة بالإسلام، ولكن بالأديان عموماً التي قطعت أشواطاً كبيرة في تحليلها وغربلتها من الكثير من الروايات التي تسيء إليها ولا يقبلها العقل وتؤثر على العقيدة الدينية بذاتها".

هكذا هو أحمد الخمليشي، علامة يجتهد في التوفيق بين القول والعمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية − 8 =

زر الذهاب إلى الأعلى