حمو النقاري.. رائد علوم المنطق في المنطقة العربية
د. منتصر حمادة
ما أصعب الاشتغال على التعريف بأعلام المنطق، ليس بسبب السمعة السيئة المرتبطة بهذا العلم، ومعها السمعة السيئة المرتبطة بالفلسفة وعلم النفس وعلوم أخرى، بمقتضى نتائج الاستثمار في الجهل الذي تعرضت له المنطقة، وما اصطلحنا عليه بـ"غسيل الدماغ باسم الدين"، والدين براء من هذه المشاريع التي أساءت إليه، وإنما لأن محرر أي مقالة، ولو من بضع فقرات، حول أحد هذه الأعلام، على قلتها، عليه أن يستحضر رأي المحتفى به، أثناء قراءة المقالة المعنية، وإذا كان الأمر يهم كل من يشتغل في علم المنطق، فمن باب أولى أن يهم من يكون عالِم منطق، ومنهم أحد أهم علماء المنطق في المنطقة، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، كما تشهد له بذلك لائحة من الأعمال التي صدرت له.
حديثنا الرمضاني عن عالِم المنطق المغربي حم النقاري، الذي طرق باب التقاعد منذ سنتين، من جامعة محمد الخامس أكدال، بالرباط، حيث كان يُدرس مادة المنطق منذ 1978، والذي بالكاد يُشارك اليوم، في هذه المحاضرة أو تلك، وعلى مضض، لأنه رجل منطق، وليس ظاهرة صوتية، حتى إن أغلب محاضرته غالباً ما تأتي بشكل عابر، من فرط التدقيق والصرامة في الإلقاء.
سبق أن اشتغلنا عل التعريف المتواضع ببعض أعمال النقاري في بعض المنابر، ومن ذلك المساهمة في التعريف بكتابه "المنطق في الثقافة الإسلامية" (2013)، إضافة إلى الإشراف على التعريف الأولي بمشروعه العلمي، في أحد أعداد مجلة "أفكار" (شهرية تعنى بقضايا الفكر والدين)، من خلال ملف حول أعماله، وصدر في العدد العاشر، أكتوبر 2016، وتميز بنشر المواد التالي التي نحيل على بعضها، من باب التذكير أولاً، وتوجيه الشكر للمشاركين ثانياً، وأغلبهم من الجزائر والمغرب: معمارية القول الفلسفي بقلم زهير قوتال (الجزائر)؛ حمو النقاري وتقويم التراث المنطقي الإسلامي العربي بقلم سعيد بنتاجر (المغرب)؛ حمو النقاري وإدخال درس التفكير النقدي إلى الجامعة المغربية بقلم أحمد الفراك (المغرب)؛ الدراسة المضمونية "الداخلية" لكتاب نظرية العلم عند أبي نصر الفارابي لحمو النقاري بقلم حنان برقرق (الجزائر)؛ الدرس المنطقي المغربي المعاصر: حمو النقاري أنموذجاً، عمار بوزيزه (الجزائر)، وعموماً، لو قمنا بما يُشبه جرد مجمل الأعمال البحثية التي تشتغل على مشروع حمو النقاري في المنطقة، وأغلبها كما هو معلوم في المغرب العربي أو "المغرب الكبير، سنخلص إلى أن نسبة الباحثين الذين يشتغلون على أعمال النقاري، مرتفعة في الجزائر مقارنة مع باقي الدول، بما فيها المغرب، وهو الذي درّس المنطق في الجامعة المغربية منذ عقود.
نأتي لبعض أعمال النقاري، ونحسبُ أنه لو أنه ألف كتاب "معجم مفاهيم علم الكلام المنهجية"، والصادر في غضون 2016 (جاء في 551 صفحة)، لكان هذا العمل شفيعاً لكي يدخل النقاري باب التأليف النوعي والتاريخي في آن، على غرار ما نعاين مع العديد من الأسماء من قبيل الراحل إدوارد سعيد مع "الاستشراق" أو الراحل محمد عابد الجابري مع "العقل السياسي العربي"، أو هشام جعيط مع "الفتنة" وغيرهم كثير.
لقد كان الباعث على تصنيف هذا المعجم، والقول لعالمنا النقاري، "الاستجابة المشجعة التي لقيتها من لدن إخوة کرام اجتمعت فيهم هموم تجديد الفكر الإسلامي – العربي المعاصر – بالانتهاض إلى توفير سبل تحقيقه ونشره حين اقترحت عليهم أهمية الانطلاق، للمساهمة في تحقيق هذا الطموح التجديدي، من الوقوف وقفات نظرية فاحصة من مفردات علم الكلام المنهجية".
من بين أحدث أعمال النقاري، نجد أيضاً كتاب "مفاهيم التفلسف الغربي: معجم تحليلي عربي"، ويقدم العمل تحليلاً دلالياً لمجموعة من المفاهيم الفلسفية المتداولة في التفلسف الغربي، قديمه وحديثه، في صورتها اللغوية الفرنسية ذات الأصول اللاتينية واليونانية، والتي كانت تحتل، في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، رتبة "اللغة العالِمة"، حيث من شأن تعرف القاري العربي على "السعة الدلالية" التي يظهرها التحليل الدلالي للمفاهيم المنتقاة والمرتبة في هذا الكتاب وعلى الاستعمال والاستثمار الفلسفيين الغربين لهذه السعة الدلالية"، أن يكون طريقاً من طرق تنبيهه إلى ضرورة:تقويم الفهم العربي الرائج للنصوص التفلسفية الغربية؛ تقويم الترجمة العربية الرائجة للمفهوم الفلسفي الغربي؛ وأخيراً، وضع "مفاهيم عربية" تكون مضاهية ومرادفة ومناسبة للمفهوم من المفاهيم الغربية، وتكون سبيلاً قد يمكن من استعمال واستثمار فلسفيين عربيين خاصة بهما سيرتبط التفلسف العربي بمجاله التداولي الخاص من جهة وسيتلاقح بالتفلسف الغربي من جهة أخرى.
من أعماله أيضاً، "المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني" (1992)، ويُعتبر من أشهر أعماله في الساحة، وبهذا العمل بالذات، كشف النقاري عن عدته العلمية الرصينة؛ "منطق الكلام من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحِجَاجي الأصولي" (2005)؛ "أبحاث في فلسفة المنطق" (2013)، "روح المنهج" (2018)، وهو عمل توخى منه بيان النظر العلمي في "المنهج"، إبستيمولوجيا ومنطقياً، مع إبراز ما اعتبره النقاري جوهرياً من مطالب ومسائل مبحث الميتودولوجيا"، حيث تكمن فائدة بيان هذه المعالم في أمرين أساسين: أحدهما : اقتراح إطار نظري عام يمكن أن يكون جامعة يُنَظم ويُنَسّق ما حصل من معلومات مبثوثة في المصادر العربية أو الأجنبية المخصصة لتناول قضايا المنهج معرفياً ومنطقياً، تنظيماً وتنسيقاً من شأنهما أن يُنبّها إلى ثغرات موجودة في هذا التناول قد تستدعي، عند البعض، الانتهاض للاجتهاد لملئها، ومن ثمة، المساهمة في تطوير النظر العلمي في المنهج؛ تانيهما : اقتراح معايير مُوجهة يعتقد النقاري أن على كل معالجة منهجية لمعرفة المعارف أو علم من العلوم مراعاتها ومراقبتها.
هناك أيضاً كتابه "المنطق في الثقافة الإسلامية" سالف الذكر، وجاء هذا العمل مساهمة من النقاري، في سياق الإجابة على بعض الأسئلة المعلقة وشبه المُغيّبة من التداول البحثي في شقيه الاستطلاعي (التعريفي) والنقدي (التقويمي)، ومنها الأسئلة التالية: كيف يكون تأثيل الحكمة وتَبئيتها وترويجها بين الجمهور؟كيف فهمت المناظرة في الفلسفة؟كيف قَلّلَ بغض الفلاسفة من قيمة علم أصول الفقه العقلانية؟كيف يمكن التنظير منطقياً لعلم الكلام؟كيف يكون إثبات حُجية الاستدلال بالشاهد على الغائب؟كيف يُفضي التناظر بالنظرية القياسية إلى جعله لعباً نظرياً؟ إلى أين تتجلى الطبيعة المنطقية لعلم العمران؟ كيف يمكن استثمار المنطق في دراسة التصوف من خلال تدبر مفهوم الحق؟ وأخيراً، كيف يمكن استثمار المنطق في دراسة التصوف من خلال تدبر مفهوم علو الهمة؟
ننهي هذه الورقة المتواضعة التي تندرج في باب القليل من ثقافة الاعتراف والتعريف بهذه الأعلام، من خلال وقفات أو إشارات للنقاري، جاءت في الفصل الأخير من كتابه "المنطق في الثقافة الإسلامية"، وعنوانه "التديّن بين الانتطاق المنطقي والاتصاف الصوفي: حالة ابن عربي"، والواقع أننا إزاء فصل مثير معرفياً بالنسبة لأغلب قراء أعمال محيي الدين بن عربي، ومن شتى المرجعيات، نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن الرجل، يكاد يُعادل نيتشه هناك في المجال التداول الغربي، من فرط تعدّد واختلاف القراءات التي طالت أعماله.
الجديد في قراءة حمو النقاري، تأسيساً على أرضية منطقية صلبة، تلك الإشادة النقارية الصريحة بإشارات ما اصطلح عليه بـ"النص الأكبري"، نسبة إلى لقب "الشيخ الأكبر"، ابن عربي.
إشادة المؤلف، باعتباره أحد رموز علوم المنطق في الساحة الإسلامية، وصلت إلى مرتبة الحديث عن نص أكبري (من خلال الاشتغال على إحدى أعمال ابن عربي) يعتبر نموذجاً يشهد لحيوية الفكر الأكبري التي لم يدرك كنهها، قطعاً، لا الفيلسوف العربي الذي لم يتمرس بالتراث الفكري الإسلامي العربي بكل فضاءاته المعرفية المتكاملة والمتعاضدة، ولا المستشرق الأجنبي الذي لم يتذوق خصوبة اللغة العربي وعناها.. من هنا، كان الفكر الأكبري مستغلقاً عند أغلبنا.
ولأهمية الإشارات النقارية الواردة في أكبر فصول العمل، ارتأينا التوقف عند سبع إشارات لأهميتها القصوى، إلى درجة قد تدفع قارئ أعمال ابن عربي في إعادة قراءة هذه الأعمال، خاصة أن المؤلف في هذا الفصل بالذات، اشتغل على بضع نصوص فقط من أعمال ابن عربي:
ـ كان الفكر الأكبري فكراً "خفيفاً"، لا بالمعنى القدحي للخفة، وإنما بمعنى القدرة الفائقة على استشراف أرحب الآفاق والمجاز إليها بمختلف المجازات، المعهود منها وغير المعهود. وليس غريباً أن يكون الأسلوب الخطابي المناسب لخفة النظر هو الأسلوب المجازي الذي تَقِلُّ فيه الإثباتات والتقريرات، بالمعنى المنطقي واللغوي، وتكثر فيه التلميحات والتلويحات.
ـ النظر الأكبري نموذج أمثل للنظر الخفيف والمرح، العميق ولاسامي، المجدّد والمؤسس، مثله في ذلك مثل النظر الفلسفي المرح عند نيتشه والنظر الفلسفي اللغوي الوجودي عند هايدغر في التفلسف الغربي المعاصر.
ـ لا تعويل على الفكر في معرفة الله تعالى، وإنما التعويل على "عُلُوِّ الهمة". لكن كيف يكون العاقل عالي الهمةّ يقدم الشيخ الأكبر جملة من الوصايا "العلمية" و"العملية" يؤدي العمل بها إلى إعلاء همة العامل بها: 1 ـ أول وصية علمية في إعلاء الهمة هي التحرر من قيود الفكر والعقل والدخول في المجاهدات والخلوات؛ 2 ـ من الوصايا العلمية الأخرى الوصية بالتقليل من طلب العلوم التي لا تنفع في الدار الآخرة، اللهم إلا أن تكون علوماً تمسُّ الحاجةُ الضرورية إليها؛ 3 ـ من الوصايا العلمية لإعلاء الهمة أيضاً، التحذير من سلطة الخيال والتنبيه إلى وجوب الاحتراز منه حتى يقع الكشف والمشاهدة.
ـ التصوف الأكبري وإن كان تصوفاً اتصافياً فإنه أيضاً تصوف معرفي؛ فبالاتصاف الذي يتخلق فيه المتصف يؤم طلب التحقق والاطلاع على حقائق راجعة إلى ذات الله تعالى أو صفاته أو أفعاله أو مفعولاته؛ وهذا الاطلاع لا يحصل إلا بعلو الهمة وبتقديم التخلق من خلال المجاهدة والخلوة والرياضة على مقتضى شروطها المحددة، فيحصل التأهب والاستعداد والتهيؤ لتلقّي وتقبّل المعارف الربّانية.
ـ الفكر الصوفي الأكبري/ خصوصاً في جانبه التخييلي، ما هو إلا بنية سطحية إخبارية تُخفي وراءها بنية عميقة إنشائية، يسترسل، بخفة نظرية وعُلُو همة، في استثمار وجوه التماثل والاختلاف بين الألفاظ والمفاهيم.
ـ فهم الفكر الأكبري يتوقف على الوقوف على هذه البنية العميقة الإنشائية وعلى الإمساك بها، وإلا فلن يُفهم الشيخ الأكبر، بل وقد يُستهجن ويُستقبح عقديًّا كما وقع فعلاً حين اتهم في دينه من لدن ابن تيمية [وأتباعه، بالأمس واليوم].
ـ التصوف الأكبري سعي تديّني متميز، لا هو بالسعي الانتطاقي المنطقي، ولا بالسعي الاتصافي الصوفي، إنه سعي منكفئ على الذات وراجع إليها؛ انكفاء ورجوعاً لا تعويل فيهما على الفكر والنظر وإنما هو تعويل على "علو الهمة" بشروطه "العلمية" وشروطه "العملية".
بقيت إشارة أخيرة، ومن باب تكريس ثقافة الاعتراف، يجب الإقرار أن حضور حمو النقاري في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل رسمي غائب، لأنه لا يتابع هذه العوامل، ولكنه حاضر عبر عمل تطوعي تقوم به الباحثة السعودية سوسن العتيبي، من خلال حسابات في كل من موقع "فيسبوك" وموقع "تويتر"، وهي حسابات قائمة منذ حوالي عقد، وغالباً ما نعاين فيها جديد أعمال النقاري عبر البوابة الرقمية، وهذه مبادرة تستحق التنويه والتقدير، في مجال فكري وعلمي يُعاني كثيراً في مقام الاعتراف.