النخب النسائية الإسلامية في السعودية
د. منتصر حمادة
هذا كتاب فريد في عنوانه ومضمونه، لأنه يشتغل على موضوع لا زال بعيداً عن التناول البحثي في التداول العربي الخليجي بالتحديد، وهو موضوع النخبة النسائية، في العربية السعودية.
نحن في ضيافة كتاب "النخب النسائية الإسلامية في السعودية"، وألفه عبد الرحمن الشقير، وهو باحث سعودي متخصص في علم الاجتماع، وتفرعت مضامين الكتاب على مقدمة بعنوان "الإطار النظري: رأس المال الرمزي"؛ مفاهيم الدراسة، وأربعة فصول، جاءت عناوينها كالتالي: "مدخل تاريخي: ثلاث موجات في صناعة النخب النسائية" [مرحلة ما قبل النخب النسائية الإسلامية]؛ "مرحلتان للاحتساب والدعوة النسائية" (1979-1990)؛ "نشأة النخب النسائية الإسلامية" (1991-2017)؛ وأخيراً، الفصل الرابع بعنوان: "النسائية الجهادية"، مع خاتمة بعنوان: "استشراف مستقبل النخب النسائية الإسلامية". (صدر العمل عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، ط 1، 2017)
ينطلق المؤلف من مبدأ عام، يؤطر الكتاب، يتمحور حول أهمية الدين في المجتمع، على اعتبار أن الدين في المنطقة يُعتبر من أهم أدوات التماسك الاجتماعي، والضبط الاجتماعي، ويتضمن تعاليم قادرة على مساعدة الإنسان العادي على التصالح مع نفسه والتكيف مع مجتمعه، وعلى تحقيق إنجازاته العلمية والعملية، لولا أن هذا المعطى لا يُجسد عائقاً أمام السقوط في بعض الممارسات الخاطئة، وغالبها بحسن نية، مما يتطلب من الباحث الاجتماعي فحصها وتقييمها، ومن أبرزها أن كثير من الدعاة والداعيات صاروا من النخب الاجتماعية [عبر القنطرة الدعوية]، ويتمايزون بالثروة في المسكن والملبس والمركب، ومن هنا جاء هذا البحث الذي يتوقف عند ظاهرة النخب النسائية الإسلامية كما هي لا كما يجب أن تكون برأي المؤلف.
واضح أن دراسة النخب النسائية الإسلامية في السعودية تعني بالضرورة التمهيد لها بموضوع الدعوة النسائية، ونظراً لأن الدراسات المحلية والعربية والأجنبية عن المرأة السعودية وتاريخها قليلة، بمعلومات شحيحة؛ فقد اعتمد المؤلف على معالجة موضوعها بمقاربة تاريخية ــ اجتماعية، بحيث يدخل ضمنها علم الاجتماع السياسي، من خلال النخب النسائية، والسيطرة على الفضاء العام، ومأسسة النشاط الدعوي بصفته مرادفاً للأحزاب السياسية.
ومن زاوية تاريخية فقد لاحظ المؤلف تجاهل المصادر التاريخية والتراجم المعاصرة والدراسات المعنية بالصحوة و"الجهاد" عن تجاهل ظاهرة الدعوة النسائية الإسلامية واتجاهاتها. ويبدو أن أحد أسباب ذلك هو أن الحركة الدعوية النسائية، مثلها مثل الحركات الأدبية والليبرالية النسائية، انطلقت بوصفها حركة قبل أن يكون لها مشروع تنظيري متكامل، أو أن يكون لها تصور نظري عن نفسها وعن المجتمع. ومن المتوقع أن تساهم هذه الدراسة في تقويم الصورة الذهنية عن المرأة السعودية، وخاصة المتدينة، كما هي متداولة في "المِخيال الغربي" وتقدم صورة أقرب ما تكون للواقع، إذ بالغ الإعلام الأمريكي والأوربي في رسم صورة ذهنية مشوهة للمرأة.
خُصّص الفصل الأول من العمل للتوقف عند أهم موجهات العمل النسائي في التداول السعودي، وأحصى المؤلف منها ثلاث موجات، تُصنف جميعها في حقبة "ما قبل النخب النسائية الإسلامية"، لذلك نحن إزاء فصل تأسيسي لبحث الموجات التاريخية التي صنعت أو أسهمت في صنع النخب النسائية السعودية بشكل عام، من خلال مشاركتهن السياسية، وعمليات إنتاجهن للمعرفة الأدبية والدينية، وقد جعلت من تاريخ مأسسة تعليم المرأة 1380هـ/1960 نقطة الصفر التي غيرت تاريخ المرأة السعودية ، كما حدّد ثلاث موجات أساسية أسهمت بوضوح في تحديد ملامح المشاركة السياسية، وعمليات إنتاج المعرفة واكتسابها لدى المرأة السعودية وتحديد اتجاهاتها، هي: النخب النسائية في المجتمع التقليدي، وهي مرحلة ما قبل مأسسة تعليم المرأة، والنخب النسائية في المجتمع الانتقالي، وهي مرحلة ما بعد مأسسة تعليم المرأة، والنخب النسائية في المجتمع الحديث، وهي مرحلة تقنية الاتصال والإعلام بعد عام 1990.
بالنسبة للفصل الثاني، والمُخصّص للتوقف عند أداء العمل النسائي السعودي في الفترة الزمنية الممتدة بين 1979 (سنة الغزو السوفياتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية واعتداء جيهمان بن سيف العتيبي على الحرم المكي)، و1990 (سنة الغزو العراقي للكويت، بكل التبعات الدرامية للحدث على المنطقة)، فقد توقف المؤلف بداية عند تميز هذه الحقبة بأنها حقبة "جيل الصحوة"، ولذلك كانت حقبة زمنية في غاية الأهمية، وذلك لقدرتها على فرض نموذج [براديغم] للحياة العامة، وتزداد أهميتها في أن أكثر معالجاتها كانت مؤدلجة، إما مع مرجعية إسلامية حركية تدافع عنها، أو مع مرجعية ليبرالية تنتقص منها.
نأتي للفصل الثالث، ويمتد من 1991 حتى تاريخ صدور العمل، أي عام 2017، حيث بدأت تتحول الدعوة النسائية من تبليغهن الخطاب الذكوري إلى حملهن فكرة دعوية خاصة بهن، لها جمهور، ولها خصوم، ولها اتجاهات في داخل الدعوة السلفية ذاتها، لذلك امتازت هذه المرحلة ببروز اتجاهين أساسيين للدعوة النسائية هما: إعادة إنتاج السلفية بشقيها: المحافظة، والسرورية؛ وبروز "الجهادية النسائية"، وهي حركة نضالية مناهضة للمجتمع وتريد إصلاحه بالقوة. [كانت محور الفصل الرابع لأهمية الظاهرة]
ويرى المؤلف في خلاصات هذا الفصل، أن الثورة الحقيقية لصعود الداعيات وجميع أنماط السلفيات وتكوين نخب نسائية إسلامية بدأت بعد ثورة الاتصالات انتشار "الهواتف الذكية" عام 2007 الذي كان علامة فارقة في تاريخ التقنية، حيث سارت باقي الشركات على فكرته، ومن ثم تدشين حراك اجتماعي جديد، وتكمن خطورته في قدرته على دمج جوال الاتصال مع الحاسب الآلي وإضافة تطبيقات التواصل الاجتماعي التفاعلية، وتزويد الأجهزة بكاميرات تصوير سهلت لجميع الفئات الهامشية والمهمشة الظهور والانتشار، بما في ذلك ظاهرة "الاحتساب النسوي".
بالنسبة للفصل الرابع، وعنوانه: "السلفية الجهادية النسائية"، فإنه يتوقف عند بعض تجليات العمل الإسلامي في نسخته "الجهادية" أو القتالية، في سياق نظريتي: النخب النسائية الإسلامية، و"النسوية"، بمقتضى بروز سعوديات متشددات لهن مشاركات حركية "جهادية"، وانخرطن في خطاب "الإسلام السياسي"، واستطاع بعضهن أن يذهبن إلى "مناهضة الدولة" على موقع "يوتيوب"، وعلى الرغم من عدم تأثير هذه المشاركات، إلا أنها كانت حركة تمهد لمرحلة ولا تعبر عن موقف، وكانت تحمل في طياتها معاني رمزية مهمة لم يستطع أحد التنبؤ بتبعاتها ولا استشراف مستقبلها، مما ساعد على تشكيل تجمع نسائي "جهادي" جديد سمح لهن بتداول الأفكار "الجهادية" والتواصل مع عناصر "جهادية" ذكورية سهل لبعض النساء منهن الالتحاق بتنظيم "القاعدة" في اليمن، وبتنظيم "داعش" وجبهة "النصرة" في سوريا.
أورد المؤلف فرضيتان قد تسهمان في فهم قضية تغير رؤية المرأة السلفية للحياة وتصورها الجديد للعالم من حولها.
ــ تفيد الفرضية الأولى أن الحركة "الجهادية" النسائية السعودية استلهمت فكرتها من الحركة "الجهادية" النسوية اليمنية، إذ كان لهن السبق في التحرك الجهادي، حسب مضامين بعض الأدبيات "الجهادية" التي استشهد بها المؤلف؛ ولكن يضعف هذه الفرضية عدم إثبات تأثير المرأة اليمنية على المرأة السعودية في أي مجال، لعدم الاحتكاك الفكري والعلمي، واتجاه انتقال المجاهدات لليمن مرتبط بوجود أزواجهن الملتحقين بالقاعدة هناك.
ــ تفيد الفرضية الثانية أن الجهاز الإعلامي في تنظيم "القاعدة" والحركات المنبثقة منها أو المنشقة عنها، تمكن من إعادة تفعيل دور الصحابيات في الجهاد، وبث الروح العصرية لمواقفهن التاريخية، إذ يكثر استشهاد إعلام تنظيم "القاعدة"، وخاصة مجلة "صدى الملاحم"، بقصص صحابيات مجاهدات، ويُعزز هذا الاتجاه دقة الخطاب الإعلامي في القاعدة بانتقاء السير الذاتية للصحابيات بعناية، ودمجها في روح الواقع نصاً وممارسة.
وكما اقترح المؤلف في آخر صفحات الكتاب، "تجديد الخطاب السلفي [الوهابي] بكل مؤسسات الدعوية، أخذاً بعين الاعتبار حجم التغيرات التي طرأت عليها، وموقف الناس منها، وهذا لا يعني أن للحق أسلوباً واحداً وخطاباً واحداً ونصاً لا يقبل إعادة التفسير، وإنما تؤكد شواهد التاريخ الإسلامي منذ البعثة النبوية حتى الآن أن مراعاة واقع المجتمع ورصد تغيراته والتكيف معها هي مقصد من المقاصد الشرعية"، مورداً ملاحظة هامة، تقتضي النظر النقدي، مفادها أن "عوامل التغيير في الخطاب السلفي تكون غالباً رد فعل من استفزاز خارجي، ومن النادر أن يخرج عالم شرعي أو مفكر أو باحث يجدد الخطاب السلفي، ويؤخذ بنظرياته على محمل التنفيذ".
كما اقترح المؤلف أن يهتم الخطاب الدعوي المقترح بثلاثة أسُس نورد منها على الخصوص، التركيز على الإصلاح الاجتماعي، باعتباره الهدف الأول والأهم، لأنه ينطوي على سلسلة من الإصلاح الداخلي، وذلك من خلال التحذير من الخرافات الجديدة التي بدأت تجتاح الشباب، مثل بعض رياضات حركة "العصر الجديد"؛ والحد من ظاهرة اختراقات السلفية بدخول من اصطلح عليهم المؤلف بـ"التجار"، رأوا فيها بيئة خصبة للتكسب بالدين بلا علم، وإصلاح كثير من مؤسسات العمل الخيري الحكومية والأهلية، من خلال إلزامها بالحكامة والشفافية.