غير مصنف

فتحي المسكيني ومغامرة الإيمان الحر

د. منتصر حمادة

هذا الكتاب سيكون له ما بعده، مع نادراً ما نقرأ هذا التعليق/ الحُكم على إصدارات في المنطقة، بسبب غلبة التكرار والاجترار، وفي أغلب الحقول العلمية، ويكفي تأمل ما يصدر في حقل "الدراسات الإسلامية"، أو حقل الفلسفية، وباقي الحقول، دون أن يحول ذلك من وجود ما يُشبه طفرات أو استثناءات، تخرج عن السائد، في هذا الحقل أو غيره، ولكن مع هذا الكتاب، الأمر مختلف بشكل كبير.

حديثنا هنا ــ وفي إشارات أولية، على أمل العودة بالتفصيل لمضامين العمل ــ عن أحدث أعمال الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني، وعنوانه: "الإيمان الحر… مباحث في فلسفة الدين"، وصدر مؤخراً عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ط 1، 2019، وجاء في 518 صفحة، منها عشرون صفحة مخصصة للمراجع، وهي مراجع بالألمانيةوالإنجليزية والفرنسية، مع غياب المراجع العربية، باستثناء الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، إضافة إلى بعض الإشارات لأهل التصوف (ابن عربي، النفري، الحلاج، البسطامي). 

ومادام الشيء بالشيء يُذكر، اتضح أن استئناس فتحي المسكيني بإشارات أهل التصوف، أفاده كثيراً في "الاشتباك المعرفي" مع اجتهادات العديد من الأعلام الفلسفية الغربية تلك التي عرّج عليها في معرض طرق باب "فلسفة الدين"، وفي مقدمة هذه الإشارات ما حرّره ابن عربي، بل نزعم أن الخطاب الصوفي كان حصناً حصيناً، حال دون سقوط المؤلف في الإلحاد، ولو أن هذا زعم يقتضي الاشتغال والحفر، لتأكيده أو نفيه، ولكل مقام مقال. (نقتصر هنا على هذه الإشارة المكثفة التي جاء في الصفحة 18، وجاءت على لسان أحد المستشرقين الألمان، ومفادها أن "التصوف مطبوع على نحو مخصوص بتسامح ديني قوي، ومن ثم هو يتحرك على مسافة بعيدة من كل مظاهر التعب. ومن هنا هو يصبح وسيطة حاسمة بين الإسلام وبين سائر أشكال الإيمان؛ بل حتى بينه وبين الحداثة التعددية").

تضمن العمل تصديراً ومقدمة، موزعة على محورين بعنوان "في حرية الانتماء" و"في دلالة فلسفة الدين"؛ ثم ثلاثة أبواب هذه عناوينها: "في ماهية الدين أو كيف صار الله فكرةّ الإيمان بعد نهاية الملة"؛ "في معنى المقدس أو الإيمان في الزمن العلماني: تجارب مع بعد لاهوتية عن الله"؛ "سياسات الرجاء: كيف نؤرخ لمصادر أنفسنا؟ أو التكفير ما بعد الملة"، إضافة إلى خاتمة بعنوان "مِمَّ يمكن أن يتوب المؤمن الحرّ؟ أو في براءة الله من المؤمنين به".

ولكن ما المقصود بالإيمان الحر [عنوان الكتاب]، أو "ما بعد الملة"؟ خاصة أننا نتحدث عن عنوان مثير إن يكن مستفزاً لأتباع الملة، في زمن نعاني فيها تواضعاً كبيراً في مجال "فلسفة الدين"، إلا أن مضامين الكتاب، الغنية بالأسئلة والاستفسارات، تتضمن توضيحات في هذا الصدد، حتى لا يذهب فكر المتلقي بعيداً، وحتى لا يُصنف المؤلف ضمن خانة الأسماء التونسية المحسوبة على ما يُصطلح عليه "الحداثة المتشددة"، أو "المتطرفة" في تعاملها مع الدين فالأحرى التديّن.

يرى المسكيني أن "طريق الإيمان الحر له مساران متوازيان ليس ثمة ما يفرض العداوة بينهما، لكن المماهاة بينهما سوف تكون حمق بوساطة مفاهيم. فالمسار الأول، وهو المسار ذاته الذي يتبناه المؤلف في الكتاب، هو مسار الفلاسفة وهو عنده مسار "الإيمان الحر"؛ أي الإيمان ليس فقط بلا دین رسمي؛ بل فيما أبعد من أفق الأديان التقليدية؛ أما المسار الثاني فهو مسار التجارب الروحية بناء على حرية الضمير، التي اتخذت شكل جماعات حرة أو جماعات روحية للعيش الحر وفقاً لما تسميه الدين الحر، وهو ما يجدر بنا أن ننتظره عندنا من جهة الاجتهاد نحو بلورة معنی من قبيل "الإسلام الحر" أو الإسلام ما بعد الملة (من قبيل "ما بعد السنة"، "ما بعد الشيعة" … إلخ). (ص 15)

حظي موضوع كانط وتعامله مع الإسلام والمسلمين  بوقفات عديدة في الكتاب، أو قل وقفات مع "المحمديين"، حسب التعبير الفلسفي حينها، حيث كان الحديث عن المحمديين، يُقصدُ به بالتحديد أتباع الإسلام، وحسب الاطلاع الكبير للمؤلف على أعمال كانط، ترجمة وشرحاً وتأويلاً، فقد اعتبر أن "كانط لم يتكلم عن الإسلام، أو عن المحمدية، إلا من أجل نقد الإيمان المسيحي في مرآة إيمان آخر يتميز عنه بالقدرة على التعبير عن نفسه بشكل شجاع، ومن ثم هو أقرب إلى حفظ الكرامة الإنسانية من أي دين آخر، اللهم إلا الدين العقلي المحض، الذي أراد كانط تأسيسه فلسفي، في نوع من التجريب التأويلي ما بعد الإسلامي". (ص 343)، ويضيف في مقام آخر أن هناك "شعور مزعج لا يلبث أن يلم بالباحث غير الغربي، أو المسلم، انتماء، عندما يتابع مع كانط رحلته التأويلية داخل قارة الدين، ويحاول أن يستفهم إشاراته النقدية للضروب المختلفة من الإيمان، التي ما انفكت تعمل في ضمير الإنسانية: كأنما مع انبثاق الأزمنة الحديثة، وقع تبادل أسرى ميتافيزيقي بيننا وبين الغرب؛ أعطونا دين العبيد (المسيحي)، وأخذوا ما دين الأحرار (المحمدي)، فصاروا، كما قيل ذات مرة، في رشاقة مرة، مسلمین بلا إسلام، ولكننا صرنا مسيحيين بلا مسيحية". (ص 345)

كانت هذه الوقفات مع كانط، مناسبة لكي يتوقف المؤلف بين الفينة والأخرى، عند بعض الأسئلة الذاتية النقدية، من قبيل السؤال التالي: "هل لدينا، اليوم، ما تعطيه من أنفسنا العميقة للإنسانية؟ خاصة أن المصدر الوحيد للثروة الروحية، اليوم، هي الثقافة الغربية، ونحن لا ننفك ننهل من منابع المعرفة الإنسانية الكونية، التي وضعتها الإنسانية الغربيةالمعاصرة على ذمتنا". (ص 344)، مقترحاً في مقام آخر أن الحل الأكثر استساغة يكمن في "العمل على خلق سياق يسمح بحدوث تركيب لطيف من الهويات الثقافية، حيثيمكن للإسلام التكيف مع الثقافة الغربية على نحو موجب، في إطار مراهنة فلسفية رشيقة، على أن يظهر "اسبينوزيون مسلمون" [بتعبير أحد المستشرقين] ينجحون في توسيع حدود ما معنى أن يكون المرء مسلماً، ومن ثم لا يحق لأي ثقافة أن تطالب ثقافة أخرى باتباع نموذجها الخاص في التنوير. ليس على المسلمين أن يتنوروا بشكل أوربي؛ بل عليهم أن يخترعوا طريقتهم الخاصة في تحرير الضمير؛ إلا أن ذلك يفترض، قبل كل شيء، أن يفهموا ليس فحسب يمكن التكيف أن تنوير العقول مهمة لا يمكن الاستعاضة عنها بأي ضرب مزعوم من التأصيل؛ بل أيضا أن الدين بعد عصر التنوير لم يعد كما كان". (ص 346)

حظي الخطاب الإلحادي بعدة وقفات نقدية في الكتاب، وخاصة الإلحاد في نسخته الأوربية، إلى درجة يبدو معها الخطاب الإلحادي في المنطقة العربية متهافتاً عندما نقرأ بعض ما سطره المسكيني في هذا العمل الهام. أما الخطاب الإسلاموي، فبالكاد حظي ببعض الوقفات النقدية العابرة، وهذا متوقع، لأن المؤلف يُعلي سقف التفكر، وما أكثر المزالق النظرية التي تميز المشروع الإسلامي بشكل عام، وكما تأكد من ذلك العديد من أتباعه قبل غيرهم، خلال السنين الأخيرة، على هامش التطورات التي طالت المنطقة والتي اصطلح عليها إعلامياً بأحداث "الربيع العربي"، نسبة إلى الوصف الشهير الذي سطرته مجلة "شؤون خارجية" الأمريكية حينها.

من ذلك مثلاً، نقصد الوقفات النقدية العابرة مع الإسلاموية، فرضية أشار إليها المؤلف مفادها أن "تأسيس فكرة الإسلام السياسي على مبدأ الحاكمية لله هو الإطار النظري الذي أدى إلى نتيجتين مترابطتين: أولاهما مبدأ التكفير؛ والثاني غياب دور مركزي لفكرة النبي"، مضيفا أن "مبدأ التكفير أدى إلى اهتمام استراتيجي بالدراسات القرآنية، سواء من طرف الإسلاميين كالمودودي، أم من طرف التنويريين مثل الجابري؛ في حين أن إهمال دور النبي قد يتم تعويضه في نوع من الاستدراك السردي بإنتاج كتابات عن السيرة النبوية، والاهتمام بشخصية النبي نوع من التعويض السردي". (ص 408)؛ أو إشارته إلى أن مصطلح "الإسلام السياسي" مفهوم زائف، لأنه حشو خطابي، داعياً إلى "الكف عن استعماله؛ لأنه يوحي للسامع بوجود إسلام غیر سیاسي، وهذا ممتنع سلفاً؛ إذ ليست السياسة غير آلية الطاعة والانقياد تحت سلطة ما مهما كان نوعها". (ص 471)

بقيت إشارة أخيرة في هذا العرض الأولي، وتهم موضوع الدراسات القرآنية، سواء تعلق الأمر بالدراسات الاستشراقية التي أنجزت على القرآن الكريم، أو تلك التي شرعت فيها مجموعة من الأقلام في المنطقة، العربية والفارسية خلال العقود الأخيرة، فقد حظيت بعدة وقفات في سياق التقييم والتقويم، ومنها خلاصة دقيقة للمؤلف جاء فيها أن هذه الدراسات "لن تساعدنا في بلورة علاقة فلسفية صحية أو حيوية بالنصوص المقدسة، طالما هي منخرطة في نزعة مراجعيه تحركها هرمينوطيقا بلا فن فهم، أو فيلولوجيا ضغائنية ممتنعة، سلفاً، عن تطوير أي وعود تأويلية موجبة، أو مساعدة، للجماعة التاريخية الحية التي مازالت تؤول نفسها في ضوء معنى القرآن دون أي اهتمام مهني، أو فيلولوجی، بخط المصحف"، معتبراً أن "القرآن، على خلاف المصحف الذي هو مغلق على مضامین قولية مكرسة، حدث لغوي إنجازي"، وأن "قارئ القرآن يفعل؛ أي يُنشئ أو ينصّب عالماً ينتمي إليه بمجرد أن يخاطب جماعة مؤمنة حية تحول خطابه إلى عمل تداولي. ولذلك، لا تستطيع أي دراسات قرآنيةغربية، تحصر نفسها في تحليل اللغة القديمة بوصفها مجرد أقوال وصفية لعالم میت، أو هجره المنتمون إليه تاريخياً، أن تعدنا بأيّ فهم مناسب لنا. نحن جزء خطير من حدث روحي واسع النطاق وغير قابل للتحكم فيه إلا بقدر ما نتحلى بمسؤولية تأويلية إزاءه، وألا نعامله من خارج أفق الفهم الذي تشكل على أساسه". (ص 448)

ختاماً، نزعم كذلك لو أن فتحي المسكيني ألف هذا الكتاب وتوقف عن التأليف، لكان ذلك سبباً يجعله يدخل تاريخ التأليف النوعي في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، لاعتبارات عدة، أهمها الجدة في النظر، والتميز في الطرح، وهناك على الخصوص، تحرير إضافة نوعية في باب نعاني خصاصاً كبيراً فيه، وهو باب أعمال "فلسفة الدين"، وهي الأعمال التي يتميز بها الفكر الشيعي المعاصر مثلاً، مقارنة مع نظيره السني المعاصر، لأسباب مركبة ليس هذا مقام الخوض فيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى