غير مصنف

الحركات الإسلامية في العالم العربي بين الجامعة والمجتمع، حكاية إخفاق مزدوج

د. عياد أبلال

برهن الربيع العربي أن ما تشهده التيارات الإسلامية باختلاف توجهاتها  ومسارتها من انتعاشة في زمن عودة الديني وفق أشكال تدين كرنفالية أكثر راديكالية، راجع إلى استفادتها طيلة سنوات من الجهل والأمية ومن واقع البلدان العربية التنموي، وهو واقع لم ينفصل يوما عن التوسع الرأسمالي أكثر من الفشل التنموي في حد ذاته على رأي الاقتصادي العربي سمير أمين، ففشل مسلسل التنمية والتحديث الذي يمتزج فيه الداخلي بالخارجي، قاد هذه الجماعات إلى صدارة الحركات الاجتماعية المناهضة ظاهريا لواقع التفقير والاستبداد، والطامحة ضمنياً  واستراتيجيا إلى السلطة، بإعلان الإسلام هو الحل، وكأن المجتمعات العربية لم تسلم بعد،  ولهذا فتحليل خطابها يكشف عن وجهها الحقيقي المختفي وراء أقنعة التقوى والدين، وهو ما يجعلها حركات سياسية بإيديولوجية دينية تقليدانية، وأمام الفراغ الايديولوجي-اليوتوبي(اليوتوبيا)، الذي كانت تمثله الأحزاب اليسارية التقدمية، باتت الحركات الإسلامية التي وظفت هذا الفراغ مهيمنة على الحرم الجامعي في جل الدول العربية التي كشف الربيع العربي على مدى انتشارها وتوغلها الإيديولوجي في الأوساط الشعبية. 

من هنا، فالجامعة باعتبارها أساساً مؤسسة لإنتاج الفكر العلمي، العقلاني والتنويري تحولت إلى مشتل لتكوين وصناعة الغلو بشتى أشكاله، وعلى رأسها التطرف الفكري ، وهو ما يجعلنا أمام إشكالية كبيرة تتجلى في تكوين نخب تقليدانية لا تؤمن بقيم الحداثة والعقلانية، وهو ما توضح بكل جلاء بعد الربيع العربي بصعود الاسلاميين إلى الحكم والحكومات في مختلف البلدان العربية

إن دراسة التيارات الطلابية الحالية، والنخب التي تخرجت من الجامعة، يكشف لنا عن التمزق الخطير الذي عرفته وتعرفه هذه الأخيرة بميلاد نسخ هجينة في شتى التيارات، مفسحة المجال للإسلام السياسي الذي استكمل انتعاشه الاجتماعي وامتداده الجماهيري بسيطرته على الحرم الجامعي، والهامش العربي بشكل عام. 

في هذا السياق، بتنا نشهد فصلا تعسفياً بين الوسيلة والهدف، بين القوى الفاعلة والقوى الارتكاسية بتعبير نيتشه، فاشتغال هذه الحركات هو نتاج استلهامها لتقنيات ووسائل التأطير والتعبئة التي تميزت بها الأحزاب والتيارات التقدمية، لكن المنتوج بطبيعة الحال مختلف عما كانت تصبو إليه القوى التقدمية، التي بدأت منذ ثلاثة عقود من الزمن في نهش جثتها من الداخل أكثر من الخارج، ناهيك عن المسخ الايديولوجي والسياسي الذي باتت تعرفه الأحزاب التقدمية. هكذا تحولت كل الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي كانت تحوز الشرعية التاريخية والشعبية إلى أحزاب بدون هوية. وهذا ما يفسر حدة الثقافة التقليدانية التي باتت تنتشر بقوة في الفضاء العام والخاص على السواء، والتي ساهمت في إنتاجه بشكل أو بآخر الجامعة بعدما فقدت وظيفتها التنويرية، وهو ما استفادت منه تيارات الإسلام السياسي ومنظروها ومريدوها.

إن ما انتبهت إليه هذه التيارات الإسلامية، بعد أن بدأ نجم الفقيه وسلطته في الأفول، بفعل هيمنة النخب المتعلمة الحداثية على الحقل السياسي (من الستينيات إلى بداية التسعينيات)، من خلال امتلاك هذه النخب لدبلومات جامعية ذات الاعتبار وبالتالي لسلطة رمزية، هو ضرورة حصول أطرها على مستويات من التعليم تؤهلها لولوج سوق المنافسة من خلال تغيير صورة الفقيه شكليا بدون مضمون، ولهذا عملت من داخل الأنظمة نفسها، وبدعهما ضدا على القوى التقدمية واليسارية، وضداً على الفكر الحداثي والعقلاني على تفريخ وحدات التكوين والبحث في سلك الماجيستير (باختلاف أشكاله وتسمياته: دبلوم الدراسات العليا المعمقة، الماستر…) والدكتوراه في شعب الفقه والشريعة والدراسات الاسلامية باعتمادات يفوق بكثير ما تشهده شعب الفلسفة والعلوم الاجتماعية والقانونية مجتمعة، من غير أن تلزم الحكومات ووزارات التعليم العالي هذه الوحدات والشعب باعتماد الفلسفة والعلوم الاجتماعية ومواد التفتح  التي تعلم التفكير والنقد والتحليل، وإلا لكنا قد ولجنا مرحلة تجديد الخطاب الديني وتحديثه منذ عقود، وهو تجديد بات أولوية ملحة في البلدان العربية والإسلامية على حد سواء، إذ أن الإطلاع على مناهج التدريس بالجامعات العربية كفيل بمعرفة مسببات الاخفاق الكبير الذي تعانيه مختلف الشعب الجامعية، وعلى رأسها شعب الدراسات الإسلامية، وإذا كان المغرب يحاول التجديد في المنهاج الدراسي من خلال تحديث مناهج دار الحديث الحسنية، وانفتاحها على مواد علمية وندوات فكرية ذات أبعاد تنويرية مهمة،  وهو ما يمكنه أن يشكل قدوة لباقي الكليات مغربيا وعربيا، فإن واقع حال الشعب بالجامعات ما يزال سجين الرؤية التقليدانية للمنهاج الديني، وهي الرؤي نفسها التي ما تزال تتحكم في التكوين بجامع الأزهر الشهير، وفي كافة الكليات الدينية بباقي البلدان العربية، باستثناء تونس التي تعتبر قدوة في تحديث المناهج وربطها بعقلانية والفكر التنويري، ولو أنها ما تزال في البداية، طالما أن مشوار الإصلاح الديني والجامعي طويل وشاق.

لقد كانت استراتيجية التيارات الاسلامية في أسلمة الجامعات تمر عبر ملء الفراغ الذي أحدثته ضربات فأس الأنظمة لرأس التيارات التقدمية واليسارية والقوى العقلانية والحداثية، وامتلاك مريديها لدبلومات وشهادات تثمن خطابهم، وتجعل سلطة هذه التيارات الدينية سلطة معرفية ظاهرياً مادام المجتمع لم يصل درجة النفاذ إلى جوهر خطاباتها الاجتماعية والسياسية، فما بالك بالدينية. وتحليل الخطاب الاجتماعي واللاوعي الجمعي يكشف عن مدى دهاء هذه الجماعات، فالدكتوراه التي كانت أعلى وأرقى دبلوم علمي يؤهل النخب لولوج سوق الشغل والابتكار والخطاب وامتلاك سلطة حداثية وعقلانية، صارت  تؤهل الاسلاميين لإعادة إنتاج امتلاك سلطة الفقيه، بتحصينها وفق استراتيجية الشرعية المنبثقة من الديني، ف"العلوم" بين قوسين، والتي ليست سوى دراسات وشعب  تتمركز حول الشريعة والفقه أصبحت علوما شرعية تحظى بهالة من التقديس والإجلال، مقابل تسفيه العلوم الحقة والعلوم الإنسانية على حد سواء، وأصبح الفقيه يفتي في الطب والصيدلة والفيزياء النظرية والكيمياء كما يفتي في اللباس والأكل والشرب والنوم واليقظة (ولهذا فلسان حالهم يقول: ''إن علماءنا يعتبرون، ويقولون، ويفتون.. وفي ذلك يتوفرون على الشهادات والدبلومات التي تؤكد مصداقيتهم العلمية وصدق خطابهم الديني'' ، وهو ما أصبح استراتيجية تمكينية بالنسبة إلى نموذج الفقيه التقليداني بعد تراجع الفكر التنويري. وبذلك تقلصت مساحات ومدارات الفكر الحر والأنوار بما يقتضي ذلك من حوار وقبول بالاختلاف إلى الحد الأدنى الذي بدأ ينبئ بالكارثة، لطالما أن الفشل العربي الحضاري والتنموي، هو فشل فكري بالدرجة الأولى. وإذا كان الأفول اليساري والتقدمي على المستوى العالمي هو ما أنتج توحشا في الليبرالية وفصلها عن أسسها العقلانية والحرية، وجعل العالم يئن تحت وطأة الاستغلال والبؤس الاجتماعي، فإن  المناعة التي كان يقيمها الفكر اليساري انتهت إلى فراغ، استغلته كل التوجهات والتيارات اليمينية المتطرفة في العالم بما في ذلك تيارات الإسلام السياسي.

ارتبط اليسار على المستوى الفكري بالماركسية العلمية، على المستوى المرجعي النظري، وبالاشتراكية والشيوعية على المستوى العملي، ولذلك لا يستقيم التحليل إلا إذا استحضرنا هذين المستويين، فالمستوى العملي والبراكسيسي عرف قمة توهجه مع توهج الاتحاد السوفياتي وعموم المعسكر الاشتراكي في الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، من خلال محور الممانعة للغرب الرأسمالي الليبرالي في توحش ليبراليته بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، الذي كان يغذي فكر التحرر والانعتاق، والرغبة في كسر شوكة الاستعمار المادي والرمزي من خلال فك  قيد التبعية والاستلاب الفكري الغربي. وبذلك تهدمت كل السرديات الكبرى، وبات العالم يعيش سردية الليبرالية المتوحشة فقط، وهي سردية تعيد إنتاج الفقر الديني والمعرفي بتجديد أشكال التدين الطقوسي بعد إفراغه من روح الدين، الأمر الذي ينطبق على التدين بالعالم العربي والإسلامي.

في هذا السياق، كانت على سبيل المثال لا الذكر، الماركسية اللينينة تغذي فكريا وثقافياً مختلف أشكال الايدولوجيات اليسارية وخطاها التقدمية، وتمنحها أفقاً مرجعياً من خلال نماذج الدول الاشتراكية والشيوعية التي لم تذخر جهداً في مد يد المساعدة لمختلف التيارات اليسارية بالعالم العربي والعالم ككل من أجل تقوية معسكرها. لكن بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، مرورا بالحرب الباردة وضمور التجربة الاشتراكية في أمريكا اللاتينية، وقع شرخ كبير بين المستويين السالفي الذكر، أي بين المرجعي النظري والعملي البركسيسي، (أي الممارسة)، وإذا استعملنا تعبير لينين سنقول إن التوافق بين النظرية والممارسة تعرض للشرخ على مستوى الممارسة السياسية.

من هنا أصبحت التيارات التقدمية واليسارية في ظل استبدادية الأنظمة العربية بين مطرقة سياسة الانفتاح وسندان ليبرالية هذه الأنظمة التي لم تستطع تحقيق الاستقلال الكامل، وظلت مستعمرة ماديا واقتصاديا، على المستوى الخارجي، واستبدادية على المستوى الداخلي، ومن الطبيعي أن تكون توجهات هذه التيارات والأحزاب مناهضة للحكم والنظام السياسي، وهو ما جعل المواجهة تحتد في العالم العربي، بينها والأنظمة.

في هذا السياق جاء تشجيع الدول العربية للفكر الإسلامي من أجل كسر شوكة اليسار وامتداداته الشعبية وقوته الاقتراحية وسمعته الدولية، وهو نفس الخطأ الذي تكرر في معظم البلدان العربية وعلى رأسها مصر، حيث منح أنوار السادات صك الغفران للإخوان المسلمين وكافة تيارات الإسلام السياسي. وهكذا وبشكل منهجي أفرغت الساحات الجامعية من مناضليها وقادتها السياسيين "اليساريين"، وأدخلوا السجون، وبدأت الساحة تفرغ من جهة وتملأ بالإسلاميين من جهة ثانية، وهي المرحلة التي شهدت كما سبق الذكر إغلاق شعب الفلسفة وعلم الاجتماع، وتشجيع شعب الدراسات الاسلامية والشريعة التي بقيت طويلا شُعبا لا تضم من ضمن موادها لا الفلسفة ولا علم الاجتماع ولا باقي المواد الأدبية بما في ذلك النقد والفنون، وهي المرحلة التي أشاعت  فيها الأنظمة مثلها في ذلك الحركات الاسلامية بأن الفلسفة المعادل الموضوعي للإلحاد، وأن الفكر الاشتراكي والشيوعي هو الخطر الأحمر، مما عمل على تهميش الفكر التقدمي والاشتراكي والعقلاني، والتحليل الموضوعي والجدلي لصالح الفكر التقليداني، وعلى المستوى العملي تم تقييد وتحجيم حرية الأحزاب والتيارات اليسارية التي انتعشت بشكل كبير في الجامعات حينها. 

الآن وبعد أن توضحت الصورة وأصبحت الرؤية واضحة للشعوب كما الأنظمة، بعد الربيع العربي الذي كشف الأقنعة، وجعل الشعوب التي كانت تراهن على الإسلام السياسي تعيش مرارة التجربة وخرابها، بات الأمر يتطلب إرادة سياسية قوية في تحديث  الفضاء العام، وإعادة النظر في المناهج التعلمية والجامعية، وتثمين الفكر الحر والتنوير الذي لن يتحقق إلا بإشاعة العقل والعقلانية. وهي أسس  يجب أن تتأسس عليها مختلف المناهج والكليات ذات الصلة بالدراسات الاسلامية، كما هو الأمر بالنسبة لباقي التخصصات، خاصة وأن تجديد الخطاب الديني يتطلب حتميا نخبا وأطراً ذات تكوين عقلاني وعلمي كفيل بالمساهمة في تنوير المجتمعات ورقيها. 

إن أسلمة الجامعات والمجتمعات العربية معناه القضاء على التعددية والاختلاف والانتصار للصوت الواحد وللمطابقة، وهو ما يعمق من أزمة التبعية والتخلف على كافة المستويات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى