مجتمــع الغابــة !
د. صلاح بوسريف
لا أعتقد أن الأمم والشُّعوب تستطيع أن تتقدم وتتطور، وتُنْجِزَ ما ترغب فيه من نُمُوّ ورفاه، ربما، دون أن يكون فيها الإنسان، هو ما تهتم به هذه الأمم والشعوب. حين أقول الإنسان، فأنا أضع إصبعي على مَوْطِنِ الخَلل، وعلى القيمة الجوهرية في كل ما يمكن أن تَبْنِي به حضارة أو شعب ما وجودهما. فالإنسان هو مدار الوجود، هو الحيوان المفكر، العاقل، الناطق، والعقل الذي يُدِير الوجود، بما يبتكره من أفكار وصناعات، وبما يُبْدِعُه من تقنيات وأدوات. فالإنسان هو مَنْ بنى السفن والبواخر، وهو من شقَّ البحار وغزا المحيطات، وهو من اخترق الفضاء، وسهل التواصُل واللقاء، وأتاح للتقنية أن تصير إحدى أهم المخترعات الحديثة، التي مهما كانت سلبياتها، وما جلبته من مشكلات، فهي تبقى إحدى أهم ما خرج من عقل الإنسان ومن فكره، بل من خياله.
أن نترك الإنسان ونستثمر في البناء، ونحول الوجود إلى سوق للبيع والشراء، أو إلى سوق سلع، الإنسان فيه، أيضاً، سلعة، أو أداة من أدوات السوق، فهذا معناه أننا نتخلَّى عن جوهر هذا الوجود، وعلى أساسه، أو بما به وُجِدَ في أصله. فلا معنى لبلاد، ولا لوطن، ولا لشعب يكون الإنسان فيه حيوانا فقط، دون الصفة التي تَتَلبَّسُه، أعني العقل، والفكر والنظر. فما نراه من حضارة وتقدم، وما وصلنا إليه من علوم وتقنيات، وما تحقق من رفاه في عدد من المجتمعات، هو حاصل هذا لعقل، الذي عَمِلَ، وفَكَّر، وطرح السؤال تلو السؤال، وسعى بكل ما يمكلك من طاقة وجهد، لمواجهة الطبيعة، ولتدليل ما وقف في وجهه من صعاب. فالعقل لم يوجد ليكون عاطلاً عن العمل والتفكير، بل وجوده مرتبط بعمله، وبما يُنْجِزُه ويؤدِّيه من مهام، وهذا ما ميَّز الإنسان عن الحيوان، أو عن السلوك البهيمي الذي هو مشترك الكائنات، قبل أن يخرج الإنسان من مجتمع الطبيعة إلى مجتمع الثقافة، مجتمع العلم والمعرفة، مجتمع المدرسة والجامعة، ومجتمع الكتابة والقراءة، واكتشاف الألواح الطينية، والبرديات والورق، وظهور الكتب والمكتبات، مع ظهور مجتمع الزراعة والرَّيّ، مقابل مجتمع الصيد. الاستقرار، وبناء المدن، كان أحد أهم ما وصل إليه الإنسان، بفضل العقل والفكر والنظر، وكبرت المسافة بين المجتمعات البشرية، وغيرها من مجتمعات مَنْ وُجِدَ مع الإنسان من مخلوقات وكائنات على الأرض.
لا معنى لمجتمع يتخلَّى عن المدرسة، أو يعتبرها ثانوية لا تحظى بنفس قيمة المال والاقتصاد، لأن المدرسة استثمار، وهي أهم وأخطر استثمار في المجتمع، لأنها استثمار في الإنسان، في تربيته، وفي تعليمه وتثقيفه، وفي اكتسابه الخبرات والمهارات التي تؤهله ليكون مواطنا يبني، ويقترح، ويشارك في القراررات، بل ويدير الأزمات والأعطاب، ويواجه كل المآزق التي تصيب الاقتصاد، وتشل الأسواق، وتكون سبباً في الكساد، وفي انهيار العملات، وغيرها مما لا يمكن أن يحدث دون وجود هذا الإنسان العاقل، المفكر، الذي يُعْمِل الخيال والنظر، ويُبادِر إلى إنقاد المجتمع من كل ما قد يبدو فيه من بوادر الوهن والاختلال، أو انحلال القيم.
الإنسان، بهذا المعنى، هو قيمة القيم، وهو مدار كل شيء، أو المحور الذي عليه تدور الأرض، لأنه وُجِدَ، لا ليكون مشكلة، بل وُجِدَ ليكون الحل. وربما هكذا نظرت الأساطير القديمة إلى الإنسان، باعتباره، من حيث الترتيب، يأتي بعد الآلهة، أو فيه شيء من روح الآلهة.
كيف إذن، تنهار المجتمعات، وتضيع فيه القيم، وتصبح آيلة للانهيار والفوضى؟
إنَّ إهمال تربية وتعليم الإنسان، هو إهمال للمجتمع، وإهمال لِما عليه بُنِيَت الثقافات والحضارات من قيم العلم والمعرفة. أن نترك الإنسان دون تربية، ودون تعليم، ودون معرفة وعلم، كأننا نَرْتَدُّ عن مجتمع الثقافة، لنعود القهقرى إلى مجتمع الطبيعة، مجتمع التَّقاتُل والاحتراب، ومجتمع الغابة الذي يأكل القوي فيه الضعيف، وتَسْتَشْرِي فيه السرقة والجريمة، فالأمن ليس أمن الأسْر والاعتقال، بل أمن التعليم والتثقيف، وأمن التربية على المحبة والحق والعدل والمساواة والتسامح والجمال، الأمن الذي لا نحتاج معه إلى شرطة ولا بوليس، لأن الإنسان يكون مُنْشَغِلاً بالأفكار، بما في ذهنه من مشروعات، غارقاً في عمله، لا وقت لديه ليَسْتَهِين بغيره، أو يزدريه ويحتقره، أو يسعى لقتاله، أو سرقة ممتلكاته والعبث بحياته.
أن نُهْمِل المدرسة، معناه أننا نهمل المجتمع، ونهمل أسباب التطور والتقدم والرفاه، وبالتالي، نُهْمِل مجتمع الثقافة، وندخل مجمع الطبيعة الذي هو مجتمع الغابة، بمعناها البهيمي المتوحش، الذي لا قحق ولا عدل، ولا شرائع فيه.