صحة

الشاي الصحراوي.. ليس مشروب تقل فقط بل رمز ثقافي لهوية وطنية خالصة

يعد الشاي الصحراوي رمزا ثقافيا أصيلا يؤثث فضاءات مدينة الداخلة ومجالسها، وعنوانا للكرم الصحراوي وحسن الاستقبال لدى ساكنة إقليم وادي الذهب وباقي الأقاليم الجنوبية للمملكة.

ويخطئ من يعتقد أن الشاي الصحراوي هو مجرد مشروب تقليدي فحسب، إذ أنه تحول مع توالي الحقب والأجيال إلى ما يشبه أيقونة سوسيو ثقافية ترسخت بقوة في عادات وذاكرة ووجدان ساكنة الصحراء المغربية.

لقد انتقلت عادة شرب الشاي لدى مجتمع الصحراء إلى طقس اجتماعي يومي وممارسة شعبية تعكس بجلاء أصالة ساكنة هذه الجهات العزيزة وتميزها وتشبثها بتقاليدها وجذورها العريقة، التي تتقاسمها مع باقي جهات المملكة.

ولهذا، يعد الشاي الصحراوي من الأولويات التي تحرص معظم الأسر المحلية على تقديمها للضيوف كتعبير عن مدى الحفاوة والاستقبال، ما يجعل من هذا المشروب التقليدي ركنا أساسيا داخل البيت الصحراوي، يسعى الجميع إلى اقتناء أنواع فاخرة منه وبمبالغ باهظة أحيانا.

وللشاي الصحراوي طقوس خاصة وأوقات معينة يتم إعداده فيها. وبالرغم من أن الشاي ليس غاية في حد ذاته، إلا أنه يستحيل عقد مجلس أو إحياء جلسة سمر داخل المجتمع الصحراوي من دون تحضير الشاي، أي بدون ما يسمى محليا "طبلة أتاي"، التي تشمل جميع وسائل إعداده.

ويظل الشاي الصحراوي نجما بلا منازع للأمسيات الثقافية والمناسبات الاجتماعية، التي تتميز على الخصوص بالتداول الشفهي للشعر الحساني والفصيح، والتنافس في الشعر الارتجالي "لقطاع"، بالإضافة إلى الألعاب الشعبية المحلية مثل "ضامة و"السيك" والألعاب العصرية مثل "الورق" و"الدومينو" وغيرها.

كما أن الجلسات الحميمية وتبادل الزيارات بين الأصدقاء أو العائلات في مدينة الداخلة وغيرها من مناطق الصحراء لا تكتمل ولا تحلو إلا من خلال إعداد وشرب الشاي الصحراوي، حيث يتبادل الجميع أطراف الحديث في عدد من الأمور الاجتماعية والمعيشية، كما يتسلون بالألغاز أو ما يعرف محليا "التحاجي" أو لمراد" التي يتم خلالها سرد العديد من الحكايات الشعبية الأصيلة.

وتحافظ الأسر الصحراوية على طقوس شرب الشاي وإعداده وشربه، من خلال التقيد بعدد من العادات، التي تعرف بـ "جيمات أتاي الثلاث"، وهي (الجماعة) حيث من الأفضل تناول الشاي مع مجموعة من الناس لتمتين الروابط العائلية والقبلية، و (الجر) بالنظر إلى ضرورة إطالة المدة الزمنية لتحضير الشاي من إجل إتاحة الفرصة للجماعة لمناقشة كافة شؤون الحياة بهدوء وروية، و(الجمر) حيث يفضل دائما من إعداد الشاي على الفحم "مجمر الفاخر".

واعتبارا للمنزلة التي يحظى بها إعداد الشاي الصحراوي وتقديمه، فقد دأب أهل الصحراء على انتقاء معد الشاي، الذي يدعى بـ "القيام"، وفقا لمعايير صارمة ومواصفات دقيقة، من بينها بلاغة الحديث وإتقان الشعر، ودماثة الأخلاق والأصل الطيب والوسامة، حيث يعد تكليف شخص ما بمهمة إعداد الشاي من باب التشريف والتعظيم. 

وبالمقابل، ينبغي على معد الشاي أن يأخذ حذره ويتقيد بالعديد من القواعد أثناء تحضيره للشاي الصحراوي، من خلال المحافظة على أدوات إعداد الشاي (مواعين أتاي)، والاعتناء بنظافة الصينية ومحتوياتها، وتقديم كؤوس مطبوخة جيدا، وعدم المبالغة في الحركة والكلام خلال هذا الطقس الاجتماعي الفريد.

وانسجاما مع مقولة شهيرة يتداولها عدد من سكان المنطقة "أتاي الرفيع.. ما يحتاج ربيع"، فإن الشاي الصحراوي يتميز، على الخصوص، بغياب نبتة النعناع، التي تظل بالمقابل مكونا أساسيا لإعداد وتحضير الشاي في باقي جهات المملكة.

وتبرز أهمية الشاي ومكانته داخل المجتمع المحلي، باعتباره عنوان للكرم، فالإنسان الصحراوي يدعو ضيفه إلى منزله بقوله "يالاه نتييو" (هيا بنا لنشرب الشاي)، إلا أن الأمر يتعلق في الغالب بوليمة كاملة تضم ما لذ وطاب من طعام وشراب.

ويحرص أهل الصحراء على تناول الشاي ذي الجودة العالية، لاسيما في فترة العصر "أتاي ادحيمس"، الذي يساعد على الهضم بعد وجبة دسمة، وكذا إراحة النفس والأعصاب وفقا لمقولة محلية شهيرة "أتاي يكلع ادواخ"، أي أن الشاي يزيل آلام الرأس.

وتظل عادة احتساء كؤوس الشاي بلونها المذهب الذي تعلوه فقاعات ناصعة البياض، تأكيدا لتشبث الإنسان الصحراوي بأحد أبرز مظاهر هويته المحلية، التي تمثل بدورها أحد روافد الحضارة المغربية العريقة.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × 2 =

زر الذهاب إلى الأعلى