بنكيران يتشبث بسرديات البوليميك
الدار/ تحليل
من المؤكد أن عبد الإله بنكيران حيوان سياسي حقيقي يتقن الجدل وصناعة البوليميك والدخول في الصراعات الثنائية والسياسوية والشعبوية. وقد راكم عبر سنوات طويلة قضاها داخل الحزب وفي دواليب السلطة خبرة لا بأس بها في هذا المجال. لكن من الواضح أن هذا الرصيد تحول بين عشية وضحاها بعد أن أُحيل الرجل على التقاعد إلى مجرد ذكريات يحاول من خلالها ربط الجسور بالمجال العام. حزب العدالة والتنمية الذي تعرّض إلى أفدح هزيمة انتخابية تعرّض إليها حزب سياسي في العقود الأخيرة لم يعد يجد هوية سياسية واضحة، وتاه في وهم ممارسة المعارضة التي لم يعد يمتلك لا مقوماتها ولا خطابها ولا أطرها المؤهلة.
والمؤكد أن انشغال الرجل بالحديث عن رئيس الحكومة عزيز أخنوش والعودة إلى سرد مذكرات لا أحد يمكنه التحقق من مصداقيتها مسألة تثبت بالملموس أن بنكيران فقد كل ما يمكن أن يربطه بالحياة السياسية العامة، لأنه مصرّ على لعب دور السارد الذي كان ذات يوم مسؤولا سياسيا وقريبا من دوائر القرار. في مثل هذه الحالات يبيح الزعيم السياسي السابق لنفسه التخلص من واجب التحفظ، ويشرع في الخوض في تفاصيل حول علاقته بالملك محمد السادس وحكايات لقاءاته معه، بينما يصر في الوقت نفسه على التذكير بأنه ما يزال مسؤولا حزبيا ومن ثمّ فإن مستقبله السياسي وربّما مسؤولياته الحكومية المحتملة لم تنته بعد.
وواجب التحفظ ورزانة المسؤولية هما الخيار الذي مال إليه رئيس الحكومة عزيز أخنوش عندما علّق على ما يرويه بنكيران باختصار قائلا: “خليوه بلاصتو لأنه أصبح مؤشرا للفشل السياسي”. ما هو الرد الذي يمكن أن يكون فعالا في مواجهة رسالة سياسية قصيرة ومركّزة ومؤثرة بهذا الشكل القوي. لقد اختصرت هذه العبارة تجربة عبد الإله بنكيران في بضع كلمات، ولا سيّما أنها تذكير صريح بهزيمته السابقة سواء في قيادة الحكومة التي آلت في النهاية إلى رئاسة سعد الدين العثماني أو في الانتخابات الأخيرة التي حصل فيها حزبه على عدد محدود من المقاعد، ثم إحالته بعد ذلك إلى التقاعد.
الفشل السياسي الذي يتحدث عنه عزيز أخنوش هو عجز عبد الإله بنكيران ثم خلفه سعد الدين العثماني على الرغم من الاستقرار والدعم الذي حظيت به حكومتهما في إقرار الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي نجحت حكومة عزيز أخنوش في تنزيلها في فترة تقل عن نصف الولاية الحكومية. كما أن ما جاء على لسان عضو المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار محمد أوجار تضمن توضيحا أكبر لمقولة الفشل السياسي عندما ذكّر بالهزيمة الانتخابية الكبرى، ثم بالهزائم الانتخابية الجزئية التي حصدها حزب العدالة والتنمية في كل الاستحقاقات الجزئية الأخيرة. كلام مقتضب ومركّز لا يسرد قصصا جانبية ولا تاريخا فرديا ومع ذلك يبلّغ رسالة عميقة إلى رجل يرفض أن يقتنع بأنه كان رجلا مهما في مرحلة من المراحل وأصبح اليوم رجلا دون مهمة.
عندما يدّعي عبد الإله بنكيران أنه هو الذي كان وراء استقدام عزيز أخنوش للمجال السياسي فهو يحاول بعبارة أخرى إرضاء غروره الشخصي الذي لم يستطع أبدا ترويضه على الرغم من كل الصفعات التي تلقاها والهزائم التي حصدها. وهو يعلم أن هذه السرديات مجرد مغالطات لا تهم أصلا المواطنين المغاربة في شيء، لأنهم ينتظرون من أيّ مسؤول حكومي أو حزبي تقديم حصيلة ميدانية وملموسة. حصيلة تتضمن مشاريع على غرار تعميم التغطية الصحية والحماية الاجتماعية وبرامج الدعم الموجهة للفئات الهشة وإطلاق آليات دعم المقاولات والقروض الصغرى وبرامج دعم الحصول على السكن، ومواجهة تداعيات الكوارث الوبائية والطبيعية مثل الزلازل والفيضانات وغيرها.
هذا هو النقاش السياسي الذي يريد المغاربة الاستماع إليه، بدلا من مهاترات سرديات أكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد تقنع حتى جمهور القصص البوليسية والأزليات الأسطورية. ولعلّ إصرار عبد الإله بنكيران على ترويج هذا النوع من الخطابات الشفهية يؤكد من جهة أخرى أنه سائر بخطى ثابتة نحو القضاء على البقية الباقية من حزبه، والإجهاز على أيّ أمل في استعادة فرص الصعود الانتخابي في الاستحقاقات القادمة. وما دام حزب العدالة والتنمية متساهلا مع هذا النوع من الخطابات وداعما لسياسي انتهت مدة صلاحيته منذ زمن فإنه لن يحصد إلا المزيد من الهزائم.