أخبار الدارسلايدر

في ذكرى 20 فبراير: الإصلاح بدل الثورة

بقلم: ياسين المصلوحي

شكلت موجة الربيع العربي منعطفًا تاريخيًا مهمًا في مسار العديد من الدول العربية، حيث شهدت بعضها إطاحة سريعة بأنظمتها، كما حدث في تونس التي انهار نظامها بعد أقل من شهر على اندلاع ما عُرف بثورة الياسمين، بينما استغرقت دول أخرى سنوات طويلة للتخلص من أنظمتها، كما في حالة ليبيا واليمن. وربما يكون نظام الأسد في سوريا آخر هذه الأنظمة، حيث صمد لأكثر من 14 عامًا بدعم من قوى خارجية قبل أن ينهار..
لم تستثنِ شرارة هذه الثورات والحركات الاحتجاجية أي دولة عربية من المحيط إلى الخليج، حيث بدأت بحركات احتجاجية سلمية سرعان ما تحولت إلى مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوى الأمن، مما أدخل بعض الدول في دوامة من الفوضى والتخريب.
إلا أن المغرب يبقى استثناءً في تعامله مع هذه الاحتجاجات، حيث تفاعلت القوى المجتمعية والسياسية بشكل مختلف مع دعوات التظاهر التي انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة بعد دعوة بعض الشباب للتظاهر في 20 فبراير 2011. وانضم إلى هذه الدعوة مجموعة من الجهات ذات التوجهات الأيديولوجية المتباينة، مثل الحزب الاشتراكي الموحد (يساري)، والهيئات الحقوقية كـالعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وحركات إسلامية مثل جماعة العدل والإحسان.
ورغم هذه التعبئة الكبيرة، إلا أن الحركة الاحتجاجية لم تحظَ بإجماع كل المغاربة، حيث برزت أصوات معارضة تدعو إلى مقاطعة الاحتجاجات وتحذّر من مخاطر الفوضى والتخريب التي قد تجر البلاد إلى مواجهات عنيفة ومصير مجهول. ومن الملاحظ أن المطالب التي رفعها المتظاهرون لم تتضمن إسقاط النظام، بل ركزت على قضايا الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية والإصلاحات السياسية، مما يعكس وعيًا مختلفًا لدى المتظاهرين الذين سعوا إلى إصلاح الأوضاع دون الدخول في مواجهات قد تؤدي إلى انهيار الدولة.
خصوصية النظام السياسي المغربي، القائم على الملكية كرمز للوحدة، ودور الملك كمرجع سياسي وديني، جعلته يتعامل مع مطالب الشارع بمسؤولية وتفاعلية إيجابية؛ مما جنّب البلاد موجة الصراعات التي كانت جامحة في كل الدول التي عرفت الثورات. ففي الوقت الذي كانت فيه قوى الأمن تفتح الرصاص الحي على المتظاهرين في تونس، وبلطجية النظام تنكل بهم في مصر، كان مسار الإصلاح قد بدأ في المغرب بعد الخطاب الملكي التاريخي في التاسع من مارس 2011، الذي دعا فيه إلى القيام بمراجعة لدستور المملكة.
شكلت الإصلاحات الدستورية التي تلت هذا الخطاب انطلاقة لمسلسل إصلاحي سياسي واجتماعي طموح. فقد نص الدستور الجديد، الذي لاقى إقبالًا واسعًا في الاستفتاء الشعبي، على توسيع صلاحيات الحكومة والبرلمان، وتعزيز فصل السلطات، وإقرار مبدأ سيادة الأمة عبر ممثليها المنتخبين ديمقراطيًا. كما أكد الدستور على أهمية حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، مما وسّع هامش الممارسة الديمقراطية.
وبعد المصادقة على الدستور، تم تنظيم انتخابات تشريعية أسفرت عن فوز حزب العدالة والتنمية، ذي التوجه الإسلامي المعتدل، بأغلبية المقاعد. وكان هذا الفوز جزءًا من موجة صعود تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، كما حدث مع حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر. ليقود بذلك حزب قادم من المعارضة أول حكومة بعد الإصلاحات السياسية والدستورية، وما لذلك من دلالة على انعكاس إرادة الناخبين وأصوات الشارع على الحياة السياسية.
هذه المؤشرات أظهرت حقيقة أن إرادة الدولة في الاستجابة لمطالب الجماهير كانت إرادة حقيقية، وليست مجرد مراوغة أو مناورة لكسب الوقت. حيث ساعدت المؤسسة الملكية الحكومة الجديدة في تنزيل برامجها ومساندتها لتثبيت النظام، وبعث الثقة لدى المواطنين، مما ساهم في الحفاظ على استقرار الأوضاع وتوطيد الروابط بين المجتمع والدولة.
إن النسق التدريجي لتنزيل الإصلاحات وإحداث التغييرات في المغرب ساهم في تجنب شلل المؤسسات أو تعطيل عملها، حيث تم القيام بذلك بشكل جزئي وتصاعدي وغير مفاجئ؛ مما ساعد على استيعاب هذا التغيير، والتأقلم معه، ومواكبته من طرف كل المكونات المجتمعية. كما أن النظام الاقتصادي المتنوع والمستقر، في نفس الوقت، مقارنةً مع بعض الدول المجاورة، ساهم في حماية الدولة من الانهيار، والحفاظ على توازناتها المالية، وتحصينها في وجه هجرة الاستثمارات، والوقوع في الشلل الاقتصادي الذي فاقم الأوضاع أكثر فأكثر في بعض الدول الأخرى.
كما أن الإيمان العميق للمجتمع بأن الإصلاح في ظل الاستقرار أنفع من البناء على أنقاض النظام المنهار – الذي قد تتطلب إعادة بنائه عقودًا طويلة إن أُعيد بناؤه أصلاً -، وكذلك روح المسؤولية والمواطنة التي أظهرتها القوى المعارضة، رغم مواقفها المعارضة، ووضع الخلافات الشخصية والأيديولوجية جانبًا عندما يتعلق الأمر باستقرار الدولة ومصلحة المجتمع واستمرار الأمة، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة الضيقة؛ كلها عوامل أعطت المغرب الحالة الاستثنائية والنموذج الفريد الذي استطاع تجاوز التأثيرات السلبية والنتائج الكارثية التي حلت بكل الدول التي عرفت سقوطًا لأنظمتها. رغم أيام العسل التي أعقبت ذلك، إلا أن النتيجة النهائية أظهرت أن ما يعقب الفوضى وانهيار النظام دون مرحلة انتقالية سليمة وهادئة يكون بناءً هشًا غير قائم على دعامات وأساسات يمكنها أن تعبر بالدولة إلى بر الأمان.
إن تجربة 20 فبراير المغربية أظهرت أنه، رغم تكون شعور بعدم الرضا على الأوضاع وانتقاد عمل بعض المؤسسات من طرف فئة من الشعب، لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى الصراع أو المواجهة بين الشعب والمؤسسات. بل إن تفاعل ملك البلاد، باعتباره رئيس الدولة، كان تفاعلًا إيجابيًا ومسؤولًا، استجاب من خلاله لنصيب كبير من المطالب الجماهيرية. كما أن انخراط مكونات المجتمع، خصوصًا الرسمية، كان انخراطًا بناءً لتنزيل إرادة الملك، بعيدًا عن الانتماءات السياسية أو الأهداف الضيقة. كما أن ثقة الشعب في مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة الملكية، أبانت أنه عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا للوطن واستقرار الدولة، يتم تغييب منطق المصلحة الخاصة، وينخرط الجميع في ورش الإصلاح والبناء.

زر الذهاب إلى الأعلى