صلاح بوسريف يكتب: المَعْنَى الثَّقافِيّ للمَدِينَة
p.p1 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px Helvetica; min-height: 22.0px}
p.p2 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 317.0px; font: 24.0px ‘Geeza Pro’}
p.p3 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 317.0px; font: 24.0px ‘Geeza Pro’; min-height: 32.0px}
p.p4 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 366.0px; font: 18.0px ‘Geeza Pro’}
p.p5 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 366.0px; font: 18.0px ‘Geeza Pro’; min-height: 24.0px}
p.p6 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; text-indent: 201.0px; font: 18.0px ‘Geeza Pro’}
p.p7 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px ‘Geeza Pro’}
p.p8 {margin: 0.0px 0.0px 0.0px 0.0px; text-align: right; font: 18.0px ‘Geeza Pro’; min-height: 24.0px}
span.s1 {font: 18.0px ‘Lucida Grande’; direction: rtl; unicode-bidi: embed}
span.s2 {direction: rtl; unicode-bidi: embed}
span.s3 {font: 18.0px Helvetica}
span.s4 {font: 18.0px ‘Lucida Grande’}
د. صلاح بوسريف
[تحية لسقراط، الرجل الذي لم تغادر روحه فضاءات المدينة]
لا يمكن إدراك المعنى الاجتماعي لأمة من الأمم، ولا ما بَلَغَتْه من حضارة ورُقِيّ، دون إدراك المعنى الثقافي لهذه الأمة. فالمدن، حين شُيِّدَتْ، كانت انعاكساً لِما بلغه الإنسان من رهافة في فكره، وفي عقله، وفي إحساسه بقيمة الجمال في حياته، وهي، في جوهرها، كانت تعبيراً عن درجة الوعي الثقافي الذي بلغَه الإنسان، في علاقته بذاته، أولاً، وفي علاقته بالمجتمع، ثانياً، وبطبيعة القضايا والمشكلات المعرفية والفكرية التي كانت تُلِحّ عليه، ثالثاً، سواء تعلَّق الأمر بتنظيم الإدارة، وتنظيم حياة الناس في المدينة، أو بوضع القوانين والشرائع التي ستنبني عليها أُسُس المدينة، بمعناها السياسي والاجتماعي والثقافي.
لم تكن المدينة، عند الإغريق، كما عند غيرهم، ممن أسَّسُوا وبنوا المُدُن، في الحضارات القديمة، مجرد بيوت، وبنايات، أو تَشْييدات للإقامة والسكن، بل إن المدينة، كان لها معنى خاصّا، هو ذلك المعنى الثقافي الذي كان هو أساسُها، في معمارها، كما في فضاءاتها العمومية، التي كان بينها، عند الإغريق، المسارح، وساحات الألعاب الرياضية والبهلوانية، وساحات الرأي السياسي والثقافي، أو الفلسفي الحر، مثل ساحة «الأغورا»، التي هي ساحة، كانت تُتِيح لعامة الناس أن يتجمهروا، ليستمعوا، أو ليتكلموا، أو للمشاركة في النقاش العام، بحرية، ودون أي منع، أو مُصادرة، مهما كانت جرأة وفداحة، ما يُقال.
انتعاش الشِّعر، والمسرح، والفكر الفلسفي، والخوض في قضايا الشأن العام، وإحساس الإنسان بمعنى وجوده في المدينة، كمشارك، ومُساهِم في الرأي، وفي بناء مجتمع السياسة والفكر، أو مجتمع النقاش والحوار، كان بين أهم ما كرَّس الديمقراطية، كخَيَار مجتمعي، وكخيار للمدينة، بمعناها الثقافي، الذي كان سابقاً، في مفهومها العام، عن المعنى السياسي. فحين نعود، إلى محاكمة سقراط، التي نُدِين بها المدينة، لأنها كانت محاكمة للفكر الحُرّ، فنحن ننسى أنَّ المدينة، كانت بالنسبة لسقراط، هي الفضاء الذي فيه حرَّر فكره من كل القيود، وفيه بلور هذا الفكر، وخالط الشبان، وحاورهم، وبثَّ فيهم قلق السؤال، وقلق المعرفة، أي أنَّ سقراط هو من أعطى المدينة معناها الثقافي والفكري، وجعلها فضاء للرأي، مهما كانت تبعاتُه، وأن المدينة، حتى حين حاكمت سقراط، فهي أتاحت لسقراط أن يدافع عن نفسه، ويقول رأيه أمام القضاة، وما قاله، وهو بين أيدينا اليوم، يكفي لنفهم كيف كان سقراط، حتى وهو يموت، يَبُثُّ في المدينة هذا المعنى الثقافي، ويسعى إلى وضعه في سياق المجتمع، ويضع، أيضاً، المدينة، في سياق هذا المعنى، لأنَّ الديمقراطية، قبل أن تكون معنًى سياسياً، فهي كانت تحمل، وما زالت إلى اليوم، ذلك المعنى الثقافي الذي بدونه، لن يكون لها معنى، وستبقى مجرد كلام فارغ، لا طائل من ورائه.
الثقافة، هي جوهر وجودنا على الأرض، لأن الثقافة هي التربية، هي العقل حين يعمل، ويبتكر، ويفكر في حل المُعْضِلات التي تواجهنا في كل حقول المعرفة والحياة، والثقافة هي الإنسان، وهو يشارك في الاختيارات والقرارات الساسية، ويُنافِح عن القيم، أو يقترح بدائل لهذه القيم، إذا ما كانت انتهت صلاحيتُها، أو يخلق قيماً جديدة، ويعمل على تكريسها، من خلال ما يدعو إليه من أفكار، ومن كتابات، وسقراط كان، خالق قيم، بامتياز، وهذا ما أزعج من كانوا في موقع القرار، لأنهم ظنُّوا، في لحظة وَهَن وشطط، أن القيم، هُم من يصنعونها، وهُم أصحاب القرار، وأنَّ الديمقراطية تنزل من فوق، وليست هواءً يسري في روح الإنسان، وفي روح المدينة، أي في جوهرها الثقافي، وهذا ما جعل سقراط يبقى حيّاً، وهم ماتوا، أو أصبحوا مجرد خبراً في تاريخ بعيد، أو عبرة لكل من يسعى لإفساد الثقافة، بإفساد المدينة، وإفساد حرية الرأي والتعبير، بالإجهاز على الإنسان المفكر، العاقل، الذي يجهر برأيه، دون التفاتٍ إلى ما قد يصير إليه الأمر من عواقب، قد تكون وخيمةً، ربما، وهذا هو وضع سقراط، في علاقته بالمدينة، أي في تكريسه لقيم الثقافة والمعرفة والجمال.