
الدار: د/ الحسين بكار السباعي
علمنا التاريخ أن الأمم العظيمة لا تقاس بقوة ما تملكه من ثروات أو بعدد ما تخوضه من حروب وإنتصارات، بل بصلابة إرادتها حين تشتد الأزمات، وبقدرتها على تحويل التحديات إلى فرص للنهضة والتجدد. وهكذا كان المغرب عبر القرون، أمة عصية على الإنكسار، شامخة بأصالتها و متجددة بروحها، راسخة بجذورها الممتدة في عمق التاريخ الإنساني، لا تهزها الرياح العاتية بل تزيدها ثباتا وإيمانا بوحدتها وقدرها. فمن ملحمة الإستقلال التي أعادت للوطن سيادته، إلى المسيرة الخضراء التي حررت الصحراء المغربية وأعادت رسم حدود الوطنية، ظل التلاحم بين العرش والشعب هو سر الخلود المغربي. ففي كل لحظة من لحظات الشك والإضطراب، كان المغاربة يكتبون دروسهم الخاصة في الصبر والحكمة، كما في أحداث 1965 التي حاولت أن تهز تماسك الدولة فواجهها الشعب بالوعي والإصرار، أو خلال سنوات الجمر التي حولها المغرب، بفضل الشجاعة والحكمة إلى مصالحة تاريخية، و منطلق لبناء دولة الحقوق والمؤسسات.
ومع اعتلاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله العرش، انطلقت مرحلة جديدة من التحول العميق في مسار الدولة المغربية، مرحلة جمعت بين طموح الإصلاح ورؤية الإستشراف، وبين واقعية الحكامة وبعد نظر القيادة. فتم بناء نموذج تنموي متوازن يرتكز على العدالة المجالية والإجتماعية، ويجعل من الإنسان محور التنمية وغايتها. لقد كان المغرب، في محيط إقليمي مضطرب، نموذج في الإصلاح الهادئ والإستقرار المنتج، متمسك بمسار إصلاحي متدرج، يوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين التنمية والسيادة.
وحين عصفت جائحة كورونا بالعالم، برز المغرب كاستثناء مشرق في إدارة الأزمات، حيث قاد جلالة الملك، بقرارات استباقية، ملحمة وطنية لصون صحة المواطنين وضمان الأمن الغذائي والاجتماعي، مؤكدا أن حماية الإنسان المغربي تظل أسمى من كل الحسابات الإقتصادية والسياسية.
كما ضلت الصحراء المغربية عنوان لوحدة الوطن ورمز لوفاء الأجيال المتعاقبة، رغم مناورات الخصوم وتكالب الدعاية المعادية والمغرضة، ليبقى المغرب متمسكا بثوابته، مدافعا عن وحدته الترابية من موقع القوة والشرعية والحق التاريخي، وما نحن إلا على مشارف أيام قليلة لحسم هذا النزاع المفتعل .
وفي خضم هذا المسار الزاخر بالإنتصارات الرمزية والمؤسساتية، جاء إنجاز “أشبال الأطلس” في كأس العالم للشباب بدولة الشيلي ومن عمق القارة الأمريكية، ليمنح التاريخ صفحة جديدة تكتب بماء من ذهب. فهؤلاء الشباب الذين نشؤوا في وطن علمهم أن الكبرياء الوطني لا يشترى، جسدوا على أرض الملعب روح أمة بأكملها، فواجهوا كبار العالم بإرادة فولاذية، وانتصروا على الأرجنتين مهد كرة القدم، وليرفعوا راية المغرب خفاقة بين الكبار.
لم يكن هذا الفوز مجرد حدث رياضي عابر، بل لحظة وطنية تجسد إستمرار الرسالة المغربية في صناعة المجد جيلا بعد جيل. لقد أثبت شباب المغرب، من داخل الوطن ومن الجالية المقيمة بالخارج، أن الإنتماء للوطن ليس جغرافيا بل هو إنتماء إلى القيم والمبادئ والإرث الحضاري. هؤلاء الشباب لم يكتفوا بحلم الفوز، بل جعلوا من العزيمة طريقا ومن الإيمان بالوطن وقودا، فكانوا خير سفراء لبلد يصنع مستقبله بثقة وكرامة. فما حققه أشبال الأطلس ليس معزولا عن السياق الوطني العام، بل هو امتداد طبيعي لمسار مجتمعي قوامه الإصرار والإيمان بقدرة المغاربة على تجاوز كل التحديات. إنه تتويج لجيل رقمي طموح يؤمن بأن الوطنية ليست مجرد خطاب، بل سلوك يجسد على أرض الواقع، وبأن المغرب يصنع بعرق أبنائه في كل الميادين، من الإقتصاد إلى الرياضة، ومن الدبلوماسية إلى الإبداع والإبتكار.
ختاما،لقد صنع شباب هذا الجيل المجد، وأثبتوا أن الراية المغربية حين ترفرف فوق المنصات العالمية، فإنها لا تمثل فريق أو مؤسسة، بل تمثل أمة عظيمة الجذور و موحدة العزم عنوانها المملكة المغربية الشريفة.
فالمجد دائما وأبدا لشباب الوطن… والمغرب باق مستمر وشامخ ما بقيت فيه هذه الروح التي تصنع المستحيل.
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.