
بقلم/د/ الحسين بكار السباعي: محلل سياسي وخبير إستراتيجي
توشك قضية الصحراء المغربية على طي آخر صفحاتها بعد نصف قرن من المد والجزر الدبلوماسي والجيوسياسي بين المغرب والجزائر و جبهة البوليساريو، لتتحول من ملف نزاع إقليمي إلى قصة نجاح دولة راهنت على الشرعية والواقعية السياسية. فبعد خمسين عاما من المسيرة الخضراء يبدو اليوم أن المملكة بلغت الربع ساعة الأخيرة من معركة سياسية طويلة، تسير نتائجها الحتمية نحو تكريس السيادة الكاملة للمغرب على أقاليمه الجنوبية في ضوء توافق دولي غير مسبوق حول مبادرة الحكم الذاتي.
فمنذ استرجاع الأقاليم الجنوبية سنة 1975، إنتهج المغرب مقاربة مزدوجة جمعت بين الدفاع الحازم والعمل الدبلوماسي المتزن، معتمدا على رصيد تاريخي وقانوني متين، ومؤمن بأن الصبر الإستراتيجي أبلغ من ضجيج المغامرة. ومع إطلاق مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007، إنتقال المغرب من موقع الدفاع إلى موقع الفعل، إذ أعاد صياغة النقاش من منطق “تقرير المصير” إلى منطق “التدبير الذاتي” في إطار السيادة الوطنية. هذه المبادرة، التي منحت الأقاليم الجنوبية برلمان وحكومة وسلطات تشريعية وقضائية محلية، تحولت سريعا إلى المرجعية الوحيدة المقبولة لدى مجلس الأمن كحل سياسي واقعي ودائم، يجسد روح المشاركة المحلية ويكرس مبدأ الوحدة في إطار التنوع.وفي المقابل هذه المبادرة تآكلت أطروحة الإنفصال، وتراجعت جبهة البوليساريو إلى هامش المشهد السياسي، بعدما فقدت السند القانوني والغطاء الدبلوماسي، وتبددت أوهام “الاستفتاء” الذي لم يعد يجد له سندا في قرارات الأمم المتحدة ولا في خرائط التحالفات الدولية. فقد إنتهى زمن الشعارات الإيديولوجية، وبدأ زمن الواقعية التي تفرض القبول بالحل المغربي بإعتباره المخرج الوحيد من مأزق تاريخي إستنزف المنطقة سياسيا وإنسانيا واقتصاديا.
وتتجه التحولات الدولية في الأيام القليلة من شهر أكتوبر 2025 نحو لحظة الحسم النهائي، حيث تحظى المسودة الأمريكية الداعمة للحكم الذاتي بتأييد واسع داخل مجلس الأمن، بمساندة أكثر من 120 دولة، من بينها القوى الدائمة العضوية. وتشير المداولات الأخيرة إلى اتفاق ضمني على تمديد تقني محدود لمهمة المينورسو إلى يناير 2026 لمواكبة مرحلة التنفيذ، في ظل توافق دولي على أن الحل في الصحراء لا يمكن أن يكون إلا في إطار السيادة المغربية. كما عززت واشنطن وباريس موقفهما المبدئي بدعم مشروع الحكم الذاتي باعتباره الإطار الوحيد الممكن، فيما كررت العواصم الأوروبية الكبرى ، مدريد، و برلين و روما، مواقفها الداعمة للمقاربة المغربية، بينما ضمنت الرباط حياد موسكو، بما أسقط كل رهان على الفيتو.
إن هذا التحول يعكس نضج الرؤية المغربية واستمرارية منطق الدولة في الدفاع عن وحدتها الترابية، دون إنفعال أو إرتجال. فالحكم الذاتي ليس مجرد تفويض إداري موسع، بل مشروع وطني متكامل يوازن بين الوحدة والسيادة من جهة، والمشاركة المحلية من جهة ثانية، ويؤسس لتدبير ديمقراطي يضمن التعدد الثقافي والعدالة المجالية والتنمية المستدامة. إنه تصور إستراتيجي يستند إلى فلسفة المسيرة الخضراء ذاتها، التي جعلت من السلم أداة للتحرير، ومن التنمية سلاحا لترسيخ السيادة.
وفي خضم هذا التقدم الدبلوماسي المتسارع، تتحول الصحراء المغربية من عبئ سياسي إلى رافعة إستراتيجية لبناء مغرب الجهات المتكاملة، ومركز إستقرار إقليمي في شمال إفريقيا والساحل. فنجاح النموذج المغربي في الحكم الذاتي سيشكل لحظة مؤسسة لتفكير مغاربي جديد، يبدل منطق الصراع إلى منطق التعاون، ويجعل من التنمية المشتركة أساسا للوحدة والتعاون الاقليمي والدولي.
ختاما، يدخل المغرب الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء وهو أكثر ثقة وصلابة وإشعاع . فاليوم لم تعد الصحراء المغربية موضوع نزاع تفاوضي، بل حقيقة جيوسياسية راسخة تعترف بها الدول وتتبناها المنظمات الدولية. ومع اقتراب لحظة التصويت في مجلس الأمن، يبدو أن العالم على وشك الإعلان عن نهاية نزاع مفتعل دام نصف قرن، لتترسخ الصحراء المغربية كفضاء سيادي متكامل، ومختبر لتجربة حكم ذاتي رائدة في القارة الإفريقية، تجسد إنتقال المغرب من منطق الدفاع إلى منطق الريادة، ومن زمن الصراع إلى زمن البناء والسلام.





