
د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.
يشكل إطلاق برنامج “جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة” منعطف حاسم في مسار السياسات العمومية بالمغرب، إذ يأتي تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية التي وردت في خطاب العرش ليوليوز 2025، الداعية إلى إرساء تنمية عادلة ومنصفة، تتجاوز المقاربات التقليدية التي ظلت حبيسة الرؤية القطاعية المحدودة، نحو رؤية ترابية شمولية تجعل من العدالة المجالية محور مركزي في هندسة القرار التنموي. فالمغرب وهو يباشر هذا الورش الوطني الكبير، لا يسعى فقط إلى تصحيح إختلالات الماضي، بل إلى بناء نموذج جديد ينسجم فيه الإنسان والمجال، ويتحول فيه التراب إلى رافعة حقيقية للإنتاج والعدالة المجالية.
وتمثل جهة سوس ماسة، وعلى رأسها مدينة أكادير، فضاء مثالي لاختبار هذا التحول الإستراتيجي، لما تزخر به من مؤهلات طبيعية وإقتصادية وبشرية، ولما تختزنه من إمكانات تؤهلها لتكون قطب تنموي وسطي يربط شمال المملكة بجنوبها. فالبرنامج الجديد، بما يحمله من روح التعاقد الترابي ومنهجية التشخيص الميداني، يعيد الإعتبار لخصوصية الجهة التي تجمع بين البحر والجبل، بين الحاضرة المتجددة أكادير والمجالات القروية الممتدة من تارودانت إلى طاطا، ليؤسس لتكامل تنموي متوازن لا يختزل الجهة في المركز الحضري، بل يوسع دوائر النفع لتشمل كل ربوعها.
إن تنزيل هذا البرنامج في سوس ماسة يعني قبل كل شيء الإستثمار في الإنسان، من خلال تحسين جودة التعليم والصحة والسكن وتطوير البنيات التحتية الإجتماعية والإقتصادية في المناطق الأقل حظا، بما يضمن تكافؤ الفرص بين المواطنين. كما يشكل دعامة أساسية لتحفيز المبادرات المقاولاتية لدى الشباب والمرأة، عبر دعم المشاريع الصغرى والمتوسطة في قطاعات السياحة المستدامة، والصناعة الغذائية والاقتصاد الأخضر والرقمي، مما يجعل التشغيل والإدماج الإقتصادي في صلب الرؤية التنموية الجديدة.
وفي ذات السياق، يفتح هذا البرنامج الباب أمام تثمين المؤهلات المحلية التي طالما شكلت رصيد غير مستثمر بالقدر الكافي، فالفلاحة العصرية، والصيد البحري والصناعات التحويلية والطاقة المتجددة، كلها قطاعات قادرة على خلق دينامية إقتصادية متكاملة متى تم تأطيرها ضمن مقاربة ترابية ذكية. كما أن المشاريع الكبرى التي تشهدها أكادير كالميناء الأطلسي الجديد والمنطقة الصناعية بأيت ملول، يمكن أن تتحول إلى محركات قوية للتنمية الترابية المندمجة إذا ما أُحسن الربط بينها وبين شبكات الإنتاج والتوزيع داخل الجهة.
غير أن التحدي الأكبر يظل قائم في مجال الحكامة الترابية، التي تمثل شرط النجاح لأي نموذج تنموي جديد. فالتنمية المندمجة تتطلب تنسيق دقيق بين مختلف الفاعلين الترابيين، وتعاقد واضح بين الدولة والجهة والجماعات الترابية، ومواكبة تقنية متواصلة تضمن الجودة والشفافية في كل مراحل التخطيط والتنفيذ والتتبع. كما أن تجاوز التفاوتات داخل الإقليم و الجهة يقتضي إرادة سياسية وإدارية لتوزيع الاستثمارات بعدالة، حتى لا يبقى الإشعاع التنموي محصورا في أكادير، بل يمتد إلى أعماق سوس ماسة.
وفق نظرتنا الإستشرافية المتواضعة، فيمكن القول أن جهة سوس ماسة مؤهلة لتصبح النموذج الوطني الأول في تنزيل هذا الجيل الجديد من البرامج، لما تتمتع به من موقع إستراتيجي ورأسمال بشري طموح، وقيادة ترابية حكيمة قادرة على إستثمار الفرص المتاحة. فأكادير اليوم ليست مجرد مدينة، بل بوابة تنموية كبرى نحو الجنوب المغربي، وحلقة وصل بين المحيط الأطلسي وعمق الصحراء المغربية ، وبين الإقتصاد الوطني ورهانات إفريقيا المستقبلية. وإذا كان الخطاب الملكي قد دعا إلى جعل العدالة المجالية حجر الزاوية في البناء الوطني، فإن سوس ماسة بما تحمله من تنوع مجالي وثقافي، تمثل التجسيد العملي لهذه الرؤية السامية.
وختاما، إن تنزيل هذا البرنامج التنموي المندمج بروح التشارك والحكمة، من شأنه أن يجعل من جهة سوس ماسة مختبر حي للنموذج التنموي الجديد، ومجال يحتضن تجربة وطنية رائدة تؤكد أن التنمية ليست مجرد أوراش عمرانية أو مشاريع مادية، بل هي قبل كل شيء فعل جماعي مؤسس على رؤية إستراتيجية قوامها العدالة والكرامة والإنصاف. ومن أكادير القلب النابض للجهة ورمز توازنها الجغرافي والإقتصادي، يمكن للمغرب أن يرسم ملامح جيل جديد من التنمية القريبة من الإنسان و المنصتة لنبض المواطن، والمنسجمة مع روح الوطن الذي يمضي بثبات نحو مغرب الجهات المتكافئة والمستقبل المتوازن.






