الدين والحياة

علي عبد الرازق.. ناقد شعارات “الخلافة الإسلامية”

الدار/ خاص

في معرض افتتاح هذه السلسلة الخاصة ببعض الأعلام التراثية، لم نجد أفضل من العلامة الأزهري الشهير علي عبد الرازق (1888 – 1966) والذي اشتهر بكتابه المرجعي الذي يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم".

ولد علي عبد الرازق في قرية أبو جرج بمحافظة المنيا في أسرة ثرية، حفظ القرآن في كتاب القرية، ثم ذهب إلى الأزهر حيث حصل على درجة العالمية. ثم ذهب إلى جامعة أكسفورد البريطانية. وعقب عودته عُين قاضيا شرعيا، قبل أن يصدر كتابه سالف الذكر، والذي يرى البعض أنه يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، بينما يرى البعض الآخر أنه أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة.

ومعلوم أن هذا الكتاب تسبب في عدة نقاشات علمية وإيديولوجية، حين صدوره وحتى اليوم، ولو أن أحداث "الربيع العربي" التي مرت منها المنطقة، جاءت لترد الاعتبار لهذا الكتاب ولشخص مؤلفه، خاصة بعد أن اتضح للرأي العام، الأفق الإصلاحي الضيق لدعوات إحياء "الخلافة الإسلامية"، كما هو صادر عن مجموعة من الحركات والجماعات الإسلامية.

ومعلوم كذلك أن الكتاب صدر تزامنا مع سقوط الخلافة العثمانية وبداية الدولة الأتاتركية، بينما كان يتصارع ملوك العرب على لقب "الخليفة"، بل ردّ عليه عدد من العلماء من أهمهم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر بكتاب عنوانه "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم" ثم سحب منه الأزهر شهادة العالمية، وهو ما اعتبره الكثير من المفكرين ردا سياسيا.

تستحق محاكمة الراحل وقفة تأمل وصف، وجاءت أولى محطاتها، عندما بادر علماء الأزهر إلى تأسيس هيئة علمية لمحاكمته، باسم هيئة "كبار العلماء في الأزهر"؛ وبالفعل، في يوم الأربعاء 12 غشت 1925، اجتمعت الهيئة، بصفة تأديبية، بمقتضى المادة الأولى من قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية. وكان اجتماعها في دار مجلس إدارة الأزهر والمعاهد الدينية الاسلامية في شارع عابدين. وفي حدود الساعة العاشرة صباحاً دخل علي عبد الرازق.. إلى المحاكمة.

في القاعة الرئيسية من الدار، جلس أربعة وعشرين عالما، حضروا جميعا لمحاكمة الشيخ، والذي جلس قبالتهم وهو ممسك الكتاب بيمينه.

سألوه: هذا كتابك؟

نعم، هذا كتابي.

أنت مصمم على كل ما فيه؟

نعم.

شيخ الأزهر: هذا الكتاب كلّه ضلال وخطأ! كتبنا لك عن نقط سبعة فيه.

وهنا، تلا الإمام نص التهمة، والتي تضمنت سبع نقاط اعتبرت الهيئة بأن الكتاب احتواها، وبأنها "مخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة"، وهي:

1. جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة، لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.

2. جعل الدين لا يمنع من أن جهاد النبي، عليه السلام، كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة للعالمين.

3. اعتبار نظام الحكم في عهد النبي، عليه السلام، موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجباً للحيرة.

4. اعتبار مهمة النبي، عليه السلام، كانت بلاغاً للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ.

5. إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وأنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا.

6. إنكار أن القضاء وظيفة شرعية.

7. اعتبار أنّ حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، من بعده كانت لادينية.

بعد انتهاء الشيخ من تلاوة نص التهمة، تقرر فصل عبد الرازق من مؤسسة الأزهر، وتجريده من شهادة العالمية، ومنعه من تولي أي منصب ديني، بما في ذلك فصله من مهنته في القضاء، فضلا عن قرار مصادرة الكتاب ومنع تداوله.

يُعد هذا الكتاب أول دراسة شرعية تؤسس للفكرة العلمانية داخل الوسط الإسلامي، وتقوم فكرة الكتاب المركزية على تفسير الدين الإسلامي بما يتفق مع التصور الغربي للدين، فالرسالة النبوية حسب المؤلف، هي رسالة روحية، ولا تتضمن سلطة حكم، حيث كان النبي عليه السلام رسولا لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإنما أحدث ذلك المسلمون من بعده، وكانت الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده حكومة دنيوية ليست من أحكام الإسلام.

وقد اتضح لبعض الباحثين أن هذه الحملة الشعواء التي شنت على الكتاب ومؤلفه العالم الأزهري الجليل المستنير، لم تكن مجرد رد فعل فكري أو نقاش نظري أو حوار بين رأي ورأي بالحجة والموعظة الحسنة ولكنها تخطت كل الحدود، حدود الصراع الفكري والحجة بالحجة والبينة بالبينة، تلك الحملة التي توجهت بشراسة للكتاب ومؤلفه لم تنظر إليه على أنه محاولة فكرية أو اجتهاد نظري، من الجائز جدا أن يكون على صواب أو على خطأ، ولكن نظرة إليه باعتباره عمل مشين، كارثي على البلاد والعباد، وقبلها على الإسلام والمسلمين، وبذلك يستوجب تقديم الكتاب والمؤلف إلى محاكمة دينية عاجلة والحكم على صاحبه بالحرمان من الانتساب للأزهر الشريف، بل سحبت منه حقوق المواطنة المصرية التي كفلها الدستور.

توقف علي عبد الرازق عند الأحاديث التي يستند لها أغلب مؤيدي "دولة الخلافة"، والتي تظهر دعوة النبي، عليه السلام، لحفظ البيعة وطاعة الإمام، فإنه بعيداً عن الخوض في صحّتها من عدمها، يصفها عبد الرازق بأنها وليدة زمانها وبيئتها؛ حيث المجتمع القبلي ما يزال حاضراً بقوة، وبالتالي فإنها دعوة لاحترام السنن والتقاليد السياسية للقبائل العربية (ما عدا تلك التي تخالف الإسلام)، وبأنها تشبه دعوة المسيح لاحترام السلطة السياسية القائمة في زمانه، وأن دعوة النبي، عليه السلام، تلك لا توجب بأي حال اختراع الشرط نفسه الذي تُحيل إليه، ممثلا في البيعة والإمام، بالطريقة نفسها التي لا يوجب فيها أمره بإكرام السائلين والفقراء اختراع فقراء ومساكين، بدلا من استئصال شروط الفقر.

كما خلص صاحب "الإسلام وأصول الحكم" إلى أن القوة لم تكن وحدها عامل الحسم في حالة الصحابي الجليل أبي بكر، بقدر ما كانت مكانته السامية كأقرب صحابة الرسول، عليه السلام، وسابقته في الإسلام، ما خلق حوله نوعا من التوافق، غير التام، بل المهدد بالزوال في بعض الأحيان، حيث لم يمتنع وجود تململ، ومعارضة عبرت عنها صراحة "الردة"، ففي رأي عبد الرازق: "نشأ لقب مرتدين لمرتدين حقيقيين عن الإسلام، ثم بقي لقباً لكل من حاربهم أبو بكر بعد ذلك، سواء كانوا خصوماً دينيين ومرتدين حقيقيين، أم كانوا خصوماً سياسيين غير مرتدين". وهذا هو الرأي ذاته الذي سيعتمده لاحقا محمد عابد الجابري في التعامل مع موضوع الردة حينها، وكذلك فتوى جديدة للمجلس العلمي الأعلى.

كما خلص أيضا إلى صراعات وحروب ما بعد النبي اتصفت بالغلاف الديني رغم طبيعتها الدنيوية/ السياسية، إضافة إلى استحداث لقب الخليفة، فكانت تلك أسباب الخطأ "الذي تسرب إلى عامة المسلمين، فخيل إليهم أن الخلافة مركز ديني، وأنّ من وُلِّي أمر المسلمين، فقد حلّ منهم في المقام الذي كان يحله رسول الله، عليه السلام، فكانت حجة للملوك والسلاطين، ليستذلوا رقاب الناس، ويلصقوا مكانتهم بمكانة لا تجوز لهم، ولا يدنون منها بشيء، وادّعى منهم لنفسه أنه ظل الله على الأرض، فجعلوا الخلافة جزءا من العقيدة، وصنماً ينفي عن السياسة صفاتها من التحديث والتجريب، فإن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة، يسميه الفقهاء خلافة، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء، والواقع أيضا؛ أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس بنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور دنيانا".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − سبعة =

زر الذهاب إلى الأعلى