الدين والحياة

التحفيز والتشجيع

إن هذه النفس البشرية خلقها الله تعالى وهي تحوي كوامن عظيمة، ومواهب كثيرة، ومكاسب جليلة؛ لكنها تحتاج إلى مَنْ يستثيرها ويُجلِّيها، وإن لهذه الاستثارة أسبابًا عديدة متنوِّعة، ولعل من أهمها التحفيز والتشجيع؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نِعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل))، قال ذلك مُشجِّعًا له بقوله: ((نِعْمَ))، فهي كلمة مدح وثناء، فماذا كانت النتيجة؟ كانت أن ابن عمر رضي الله عنه كان لا ينام من الليل إلا قليلًا.

ما أحوجنا إلى ذلك داخل أُسَرِنا، ومما لا شكَّ فيه أننا نرى تصرُّفات إيجابية وأعمالًا جليلة من أبنائنا وبناتنا، ولو كانت قليلة، فإنها أرض خصبة عندما نسقيها بألفاظ التشجيع والتحفيز.

وثمة سؤال يطرح نفسه، ماذا لو كان للابن أو البنت في كل يوم كلمة تحفيز لأي إنتاج إيجابي حتى ولو كان تصرُّفًا عابرًا، فإن ذلك يبني في نفس الأولاد أن يكونوا إيجابيِّين؛ لأن مشاعرهم مرهفة وتحب ذلك السلوك، وقد يتنوَّع هذا التشجيع، فقد يكون كلمة، وقد يكون ابتسامة، وقد يكون هدية، وقد يكون رحلة ونحو ذلك، فكم هو جميل أن يكون ذلك سلوكًا طبيعيًّا لهذه الأسرة، ولكلٍّ ما يُناسبه من التشجيع، فالمرأة في شكرها لزوجها ودعائها له عند إعداد وتجهيز أي عمل يخدم البيت والأسرة، فهو بناء له وتحفيز، وكذلك الرجل بثنائه على زوجته عند إعدادها لطعامه وشؤونه تحفيز جميل أيضًا، وفي دعاء الولد لوالديه وإظهار ذلك لهما مقابل تربيتهما وتعبهما هو تشجيع لهما، وهكذا الجميع يعيش روح التشجيع والتحفيز، فتكون هذه الأسرة مُتقدِّمةً يومًا بعد يوم في مخرجات جميلة فيما بينها، وينعكس ذلك إيجابًا على الآخرين.

أيها الأب المبارك وأيتها الأمُّ المباركة، لعلكما تجريان تجربة ولمدة شهر واحد فقط برصد إيجابيات أولادكما ولو صغرت، وتقومان بتشجيعهم وتحفيزهم، ثم تتناقشان في المكاسب العظيمة التي اتَّصَف بها الأولاد مع التغاضي النسبي عن أخطائهم حتى لا يُؤثِّر سلبًا في هذه التجربة، كما أنكما ستجدان أعمالًا جليلة منهم؛ لأن هذه التجربة أثارت مكامن هذه التصرُّفات بينما كانت هذه التصرُّفات قبل ذلك كأنها غائبة عن الحس، وذلك لبُعْدِنا عن التشجيع لهم.

الواقع مملوء بشواهد التشجيع والتحفيز، ومن ذلك الواقع أنه عندما قام المعلم بتصحيح إجابة أحد الطلاب كتب له في كراسته: "وأنني أرغب أن أراك طبيبًا حاذقًا"، فلعل هذه الكلمة أخذت مأخذها في ذهن هذا الطالب تشجيعًا له؛ فعمل على تحقيقها، فكان بعد ذلك طبيبًا حاذقًا بتوفيق الله تبارك وتعالى، ومن ذلك أيضًا أن أحدهم سمِعَ قارئًا يقرأ بصوت جميل، فقال له: هل تحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: ما أجمل هذا الصوت لو كان معه حفظ القرآن! فما أكمل هذا القارئ سنةً ونصفًا إلا وقد حفظ القرآن.

‏وإن من التشجيع الذي يستمرُّ مع صاحبه أن يُلقَّب هذا الابن مثلًا بلقب إيجابي يُناسِب قُدْراته ويُنادى به، وذلك مثل كلمة "يا دكتور"، أو "يا مهندس"، أو "يا خطيب"، ونحو ذلك، وكم سمِعنا من الأشخاص الذين بلغوا هذه المنازل عن طريق هذه الألقاب وتشجيعهم بها؛ ولكن مع إطلاقها عليهم، يحفزون بما يُتمِّمُها ويُكملها، وإياكم أيها الإخوة أن تُطلِقوا هذه الألقاب عن طريق الهزل أو السخرية، فقد تنقلب إلى ضدِّها، وإن كنا نقول هذا في التشجيع، فإننا نُحذِّر من إطلاق كلمات سلبية تحطم الشخصية وتهدمها؛ ولذلك يقول أحدهم: كنت خارجًا يومًا من الأيام من المدرسة فمرَّت سيارة كبيرة تحمل متاعًا من الأمتعة، واستخدم سائقُها المنبِّه، فالتفت إليَّ أحد الكبار وقال: يا فلان، هذه هي مستقبلك الوظيفي، فيقول هذا المتحدِّث: تركت الدراسة بعد هذا التحطيم؛ حيث إن بعض الناس ذو حساسية مفرطة، فحذاري أيها الإخوة من استعمال وإطلاق مثل هذه الألفاظ الشائنة ذات السخرية والاستهزاء، ولو كانت عن طريق المزح؛ فإنها تهدم الطموح والسمو.

إن الغريب في موضوع التشجيع أن التصرُّفات الإيجابية تزيد معه وتتكاثر، فهو بهذا جانب كبير من التربية؛ بل ويختصر علينا الكثير من الجهود، ولو أن الأب حدَّد شيئًا معينًا من دخله الشهري للتشجيع والتحفيز، لكان ذلك أمرًا طيبًا؛ لأنه يبني في أولاده صفات حميدة وخصالًا حسنة مجيدة.

‏لو وضعت مقارنة بين التشجيع وعدم التشجيع لرأيتما أنهما أسلوبان موجودان في الأُسَر؛ لكن الفرق بينهما في الواقع التربوي أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب، فسنرى الأسرة التي قامت على التشجيع تنتقل من مستوى حسن إلى أحسن بخلاف الأخرى التي تقوم على التحطيم، فهي تنتقل من سيِّئ إلى أسوأ.

إن التحفيز يبني في الأسرة الطموح والارتفاع والتطلُّع إلى الأعلى وكل يريد هذا لأسرته؛ لكننا أحيانًا مع الأسف نريده فقط بأذهاننا، فإذا نزلنا إلى الواقع، فقد نرى البعض أبدع فيه كواقع عملي؛ لكن نرى مع الأسف البعض الآخر قد أخفق، فالأماني الذهنية لا تنفع ما لم يؤيدها الواقع العملي.

‏ونختم  بموقفين في مجال التحفيز بالكلام واللفظ ونحوهما:

‏الأول: أن أحد المعلمين رأى من أحد طلابه كسلًا وفتورًا، فما كان له إلا أن كتب له رسالة قصيرة جدًّا، وهي خاصة له، كتب فيها بيتًا من الشعر؛ حيث قال:

ومَنْ يتهيَّب صُعُودَ الجبال *** يَعِشْ أبَدَ الدَّهْرِ بينَ الحُفَر

ثم ناولها إياه، فكانت هذه الرسالة بهذه الخصوصية دافعًا ومُشجِّعًا ومُحفِّزًا، فكان هذا الطالب من الأوائل بعد تلك الرسالة.

‏الثاني: قام طالب ليتحدَّث في المدرسة بعد الصلاة، فأُرْتِجَ عليه، فما زاد على البسملة والحمد لله، ثم عجز عن الكلام فجلس، فضحك زملاؤه؛ ولكن جاء أحد المربين، وأخذه إلى مكتبه، وقال له: إنك نجحت النجاح الأول، وهو القيام أمام الجمهور في حين أنه عجز عنه زملاؤك ونحن ننتظر منك النجاح الثاني، وهو الكلام والانطلاق، فدرَّبَه على الكلام حتى أصبح هذا الطالب مُتحدِّثًا بارعًا، فسياسة التشجيع أيها الإخوة الأكارم سياسة لا تعرف الفشل إذا اهتمَّ بها المربِّي من الآباء والأمهات والمعلمين الكِبار والصِّغار.

نسال الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباه المفلحين، وأن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويرزُقْنا اتِّباعه، وأن يُريَنا الباطلَ باطلًا ويرزُقْنا اجتنابَه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

11 − ثمانية =

زر الذهاب إلى الأعلى