غير مصنف

العُنْف والعُنْف المُضادّ

صلاح بوسريف

إنَّ مقولة العُنف يُوَلِّد العُنْف، مقولة صحيحة وسليمة، ويمكن تأكيد صحتها وسلامتها من خلال وقائع وأفعال، سواء أتينا بها من الماضي، أو اكتفينا بما يجري في الحاضر، لا فرق.

ولعلَّ عنف الدولة الذي يتجلَّى في عديد من المظاهر والسلوكات والقوانين والمؤسسات، وآليات القمع والرَّدْع والمُواجَهَة، هي بين ما يخلق رَدّ الفعل المُضاد عند الطَّرف الآخر الذي هو الشعب. فالشعوب، كيفما كانت، تعتبر نفسها، دائماً، مقهورة، تتعرَّض لابتزاز الدولة، ولقمعها وتسلطها، وتسعى للتعبير عن رفضها لهذا الابتزاز والقمع والتسلط، إما بالنقد، عبر الكتابة والنشر، وإما بخلق أحزاب ونقابات وجمعيات، تكون معارضة لسياسة الدولة، ولِما تعمل الدولة على استعماله من إكراه في فرض ضرائب وأتاواتٍ تكون في غير صالح المواطن، وتُرْهِق كاهله، بل تمس خبزه وماءه، وما يتنفَّسَه من هواء. فالجرائد والمجلات، ووسائل الإعلام، غالباً ما تكون في يد الدولة، خصوصاً في الدول التي تكون أنظمتها غير ديمقراطية، أو شمولية، أو أنظمة بدون طعم ولا لون، هي كل شيء، ولا شيء في نفس الآن.

من يتأمَّل ما يجري من احتجاجات في الشوارع العربية، سيُدْرِك حجم التوتر الذي يطبع علاقة الدولة بالشارع. اعتراض الشارع على سياسة الدولة، واختياراتها الاجتماعية والاقتصادية، وما تَسُنُّه من قوانين تكون، في أغلبها مُجْحِفَة ظالمةً للطبقات الاجتماعية الدنيا، التي هي طبقات هَشَّة، تعيش على الكَفَاف، وحتَّى الطبقات الوسطى التي، هي الأخرى، فقدت توازنها، وتهاوتْ، أو تلاشَتْ في غيرها من الطبقات، باتت عُرْضَةً لهذا العُنْف الاجتماعي والاقتصادي، وللاختيارات التي لم تعد الدولة، نفسها، تتحكَّم فيها، باعتبارها إملاءات خارجية، هي نتيجة للديون الكبيرة التي اسْتَجْلَبَتْها الدولة لتحل بها بعض معضلاتها، فانقلب السِّحْر على السَّاحِر، كما يُقال، فلا المُعضلات حُلَّت، ولا الشعب استفاد شيئاً من هذه الديون التي تراكمت بما يفوق طاقة الشعوب، لأن الشعوب، في نهاية المطاف، هي من تُؤدِّي هذه القروض، من عرقها وشقائها، لا من كانت اختياراتهم الاجتماعية والاقتصادية ذات فائدة، أو أنها استطاعت أن تُغَيِّر شيئاً في حياة الناس.

فما أن يخرج الشعب، أو بعض طبقات هذا الشعب، للتعبير عن رفضهم لسياسات الدولة التي لا طائل من ورائها، حتَّى تخرج الدولة بعتادها وترسانتها القمعية لمواجهة هؤلاء، بدعوى حفظ النظام، وضمان الأمن والاستقرار، وتفادي الحرب الأهلية، لا قدَّر الله، أو أنَّ هذه الاحتجاجات هي تآمُر على الدولة وعلى النظام، لذلك، يقتضي الأمر مواجهتها بكل وسائل الردع والقمع والقتل، كما رأينا، في العراق وإيران، وقبلها في سوريا.

إنَّنا، مهما حاولنا تبرير أسباب العنف، فإنّ العنف، في ذاته، هو عنف يُولِّدُ عُنْفاً مُضادّاً، حتى في الشوارع، والحياة العامة للناس، فلا أحد يقبل الإهانة، أو يستكين لغيره ليكون ضحية، أو يقبل بالظلم والعسف، سواء أكان مادياً أم رمزيا. وعنف الدولة، هو عنف بالمَعْنَيَيْن، عنف مادي ظاهر، هو ما يتجلَّى في القمع والردع والاعتقال، والشطط في استعمال السلطة، وعنف رمزي، هو ما نجده في القوانين، وفي المُؤسَّسات التابعة للدولة التي تقوم على الإجبار والإكراه، أو تحرص أن تظهر بهذا المظهر، ضماناً، كما يُقال، لهيبة الدولة والنظام.

حين تكون الدولة غير مؤهَّلَة للحوار، أو لا ترغب في الحوار وترفضه، أو تستعمل الحوار، فقط، كذريعة لربح الوقت، فهذا ما يجعل الشارع، يأخذ المبادرة، ويعتبر كل المؤسسات، كيفما كانت طبيعتها، عاجزة عن الحل، أو متواطئة مع الدولة، وما يجعل الدولة تتدخَّل بقوة لردع الشارع، بدعوى مكافحة الشغب. والطريف، أن هذا هو نفس ما نراه، وما يجري ويحدث حتَّى في الملاعب، وفي مباريات كرة القدم، بصورة خاصة، فكأنَّ حرباً ما ستجري على الأرض،، وليست فُرْجَة ولعباً وتَنافُساً، كل طرف يتهيَّأ لمواجهة الآخر، دون التفكير في ما قد يؤول إليه الوضع من نتائج وعواقب، غالباً ما تكون وخيمة.

غياب الحوار، وحرية الرأي والفكر، وغياب مؤسسات فعلية تُمَثِّل الشارع، وتستطيع استقطابه وتأطيره، وخلق نوع من الوعي السياسي والنقابي عنده، وعجز الأحزاب والنقابات ذاتها عن حل معضلاتها الداخلية، وعن تغيير فكرها، وبرامجها، ورؤيتها، وما تعمل به من نظريات ومفاهيم، وأيضاً غياب المؤسسات الثقافية، وصمت المثقفين عما يجري، هو ما يؤدي إلى توسيع مساحات العنف، ويطلق يد الدولة في استعمال العنف بكل أشكاله، وتبرير هذا العنف، تحت مُسَمَّى حماية الأمن العام، أو فرض حالة الطَّواريء، متى بدا أن الدولة عاجزة عن حل مشكلاتها مع الشارع، وهذه أقصى درجات العنف، بِمَعْنَيَيْه، المادي والرمزي.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى