المدرجات تتكلم “سياسة”..من المسؤول؟
الساعة تشير إلى السابعة من مساء يوم السبت 23 نونبر. سكان العاصمة الاقتصادية تجمعوا في المقاهي وتسمروا أمام شاشات التلفزيون، الدعاية الإعلامية لما سمي ب"دربي العرب" فعلت فعلها وعبأت المزيد من الجماهير التي تترقب هذه المباراة التاريخية. قبلها بأيام تحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى ملعب مفتوح بين جماهير الفريقين جربت فيه كل أسلحة الحرب النفسية. نعم إنها حرب بكل ما في الكلمة من معنى، وعصب هذه الحرب سيظهر في المدرجات قبيل إطلاق صافرة البداية بدقائق قليلة. وبدلا من أن ترفع شعارات التشجيع التقليدية، تنطق المدرجات لغة السياسة عبر "التيفوات" المتنوعة التي رفعتها.
تسرق المدرجات الأضواء من اللاعبين، ويضطر حكم المباراة إلى تأخير لحظة البداية بضعة ثواني حتى تنتهي اللوحات الفنية التي شرعت جماهير الفريقين في عرضها على المدرجات. تبدأ "التيفوات" في الظهور واحدا بعد الآخر، ألوان وتصاميم جديدة ومبهرة بتقنيات جديدة، وتدخل جماهير المباراة في منافسات التأويل لمضامين الرسائل الملونة التي ترفعها الجماهير. الإيحاءات الرياضية الصرفة تمتزج ببعض التلميحات السياسية الخالصة، لتعطي للمباراة طابعا خاصا غير مسبوق، وبدلا من أن يستمع الجمهور لأغنية "ظلموني فبلادي" يرى بعض معانيها تتجسد على صور ولوحات فنية مبهرة. هذا الزواج بين كرة القدم والشعارات السياسية أصبح منذ زمن ليس بالبعيد فنا تتقنه "الإلترات".
رغم أن فصائل الإلترات التابعة لفريق الرجاء البيضاوي حرصت مباشرة بعد نهاية المباراة على تكذيب التأويلات السياسية التي حملتها التيفوات إلا أن هذا التكذيب لم ينجح في حجب كل الرسائل التي حفلت بها مباراة ديربي العرب. الأعلام الفلسطينية والأغاني الحماسية، ثم تيفو "الغرفة 101" التي كتبت باللغة الإنكليزية "Room 101". هذا التيفو بالضبط هو الذي ذكر الجماهير ومتابعي كرة القدم باحتضان المدرجات للسياسة وممارستها. بسرعة بدأت التأويلات تربط بين هذا الشعار المستوحى من رواية جورج أورويل الشهيرة "1984" والتي كانت غرفة التعذيب فيها تحمل الرقم 101، وبين الوقائع الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المغرب منذ بضعة سنوات.
لكن لماذا تعتنق جماهير الكرة الفعل السياسي من خلال ممارسة الاحتجاج بالشعارات؟ من المفترض أن تشكل لحظات المباراة فسحة للمتعة الرياضية الخالصة ونسيان أعباء الحياة اليومية، لكن هذه الغاية لم تعد مقنعة لجماهير الإلترات في مختلف الأندية، "إيغلز" أو "وينرز" أو "هيركوليس" أو غيرها من روابط المحبين انفلتت شيئا فشيئا من الفراغ التأطيري الصارخ الذي تعيشه شريحة الشباب ووجدت في الفعل السياسي المغلف بالهوس الرياضي ضالة لتصريف المطالب والشعارات والانفعالات في مواجهة أوجاع الحياة وإخفاقاتها. لقد فشلت المدرسة العمومية في احتضان القاصرين من هؤلاء المشجعين ويكفي أن نتذكر أن كلفة الهدر المدرسي السنوية تصل إلى 300 ألف تلميذ يغادرون الفصول الدراسية دون تأهيل أو شهادة. ويجد هؤلاء الذين صنفتهم المدرسة في خانة الراسبين أو الفاشلين المجال واسعا في مدرجات الكرة للتعبير عن ذواتهم وكفاءاتهم. هذا لا يعني أن جمهور الكرة هو فقط من هذه الشريحة، وإنما المقصود هنا أن على المدرسة أن تؤهل أساليبها وأدواتها من أجل احتضان المتعلمين بما يلائم العصر الثلاثي الأبعاد الذي صنعت فيه "التيفوات".
وبغض النظر عن كون ظاهرة الإلترات واعتناق السياسة إيجابية أو سلبية، فإن من المؤكد أن هيمنة شأن التنافس الكروي على الرأي العام واجتياحه بشكل مفرط لشبكات التواصل الاجتماعي يعكس الهوة التأطيرية الكبيرة التي نتحدث عنها. فالفشل لم يكن من نصيب المدرسة وحدها، بل إن الأحزاب السياسية تتحمل جانبا كبيرا من هذا الفراغ الذي يصب في مصلحة المستديرة. وإذا كانت ظاهرة العزوف عن السياسة والانضمام للأحزاب تجتاح المجتمع المغربي بكامل أطيافه فإنها أكثر انتشارا في أوساط الشباب من جماهير الكرة. هذه الشريحة التي تمثل 65 في المائة من مجموع السكان لم تستطع الانخراط في التحولات السياسية التي عرفها المغرب منذ سنوات، ولا تبوأ موقع ضمن خريطة القرار السياسي. وتكشف إحصائيات للمندوبية السامية للتخطيط أن 70% من الشباب لا يثقون في جدوى العمل السياسي، و5% يؤمنون بالعمل الحزبي، و1% فقط يزاولون الفعل السياسي من داخل الهيئات السياسية، بينما يشكل الشباب 40% من الكتلة الناخبة.
إن احتضان المدرجات للخطاب السياسي والاحتجاجي تبرئ الشباب من تهمة اللامسؤولية واللامبالاة بالشأن العام، وتؤكد أن الطلاق بينه وبين السياسة اضطرار وليس اختيار. وهذا ما يلقي مسؤوليات جسيمة على كل مؤسسات الوساطة التي ينبغي أن تعيد التفكير في وسائلها وأساليبها من أجل تحقيق المصالحة مع الشباب. ويبدو أن درس المدرجات يمكن أن يفيد السلطات والمؤسسات والهيئات السياسية والمجتمع المدني في كيفية استقطاب هذه الشريحة الواسعة وإدماجها في صناعة القرار وفي المشاركة في دينامية التحولات السياسية والاقتصادية. فقد منحت المدرجات الواسعة والمفتوحة لهؤلاء الشباب عنصر الحرية التي غالبا ما تتم مصادرتها في الفضاءات الأخرى التي يترددون عليها كالمدرسة والأسرة والشارع. ومن ثمة فإن رهان إنقاذ العمل الحزبي وإعادة الاعتبار للحياة السياسية يمر ببساطة أولا عبر منح الكلمة لهذه الشريحة للتعبير عن آرائها وأفكارها واقتراحاتها لا بمنطق الكوطا واللوائح الوطنية وإنما إيمانا بقدراتها ومؤهلاتها في تحقيق التغيير والتطور المنشود.