قراءة في كتاب “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة” للدكتور أحمد عبادي (1)
الدار / خاص
نشرت البوابة الالكترونية للرابطة المحمدية للعلماء، قراءة لكتاب “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة”، للدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة، وهو ضمن منشورات كلية أصول الدين بتطوان.
وقدم هذه القراءة الدكتور حسان الشهيد، أستاذ التعليم العالي، بكلية أصول الدين وحوار الحضارات، بمدينة تطوان.
ويسر موقع “الدار” أن يقدم لقرائه هذه القراءة في حلقات، لما تنطوي عليه من عمق فكري، وطرح منهجي لامس فيه الدكتور أحمد عبادي تحديات ورهانات المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة”.
تمثل العولمة أحد أشكال التعارف الثقافي والتدافع الحضاري، غير أنها قد تؤثر في تهديد الأسس الإنسانية للمنظومة القيمية عبر التاريخ، سواء طال ذلك الأثر المستوى الفردي أو الأسري أو المجتمع أو العالم ككل، ولعل أهم المداخل الكبرى لمقاربة ظاهرة العولمة في هذا التوصيف أربعة:
المدخل الأول: جانب العلم: ويتشخص ذلك في ما أسداه البحث العلمي اللامحدود من خدمات للإنسان في اتجاه الاستخلاف والشهود بقطع النظر عن أبعادهما الثقافية، قد يتجاوز ذلك إلى المساس بالجوانب الروحية وما يتعلق بها من قيم إنسانية نبيلة خصوصية أو عالمية.
المدخل الثاني: جانب المال ومن أدق تجلياته ما أضحى يعرف بالخوصصة أو الخصخصة، وهي من أشد الخصوم المفترضين لمنظومة القيم، لكونها لم تعد مبدأ تهديد للمخيال الجمعي للخدمات المادية المشتركة، بل أصبحت مخاطرها تطول الأبعاد القيمية في الإنسان بما في ذلك الجوانب الروحية. حتى أصبحت مجموعة من قيمنا الإنسانية تنقض عروة عروة بتأثير من التشييء المادي لمضامينها.
المدخل الثالث: جانب الإعلام، وهو من المداخل الأكثر خطورة، لما يحمله من رموز متعينة وسميائيات فكرية عابرة للثقافات وخارقة للحضارات، إن على المستوى القيم النفسية أو الأسرية أو الاجتماعية أو حتى العالمية.
المدخل الرابع: جانب القوة: حيث إن دلالات السلطة المتضمنة في أوجه العولمة بصياغتها القسرية “الفوعلة” بما تحمله من فهومات الإكراه في التغيير، من تحويل ثقافي وتغيير حضاري ستطول لا محالة المفردات القيمية لدى الإنسان، وأولها مفهوم الحرية أو الإكراه في المعتقد، أو في الفكر، وهذا مؤشر على أن الدفع في هذا الاتجاه يمنح الأولوية للمظاهر على الجواهر.
وإن مما تتميز به العولمة في هذا التدافع الحضاري المعاصر هو انطواؤها على خلفية اختراقات ناعمة للقيم الإنسانية ويبدو ذلك في أمرين:
الأول؛ أن العولمة المعاصرة بمظاهرها وتجلياتها تتسلل إلى المناطق الحساسة في القيم الروحية، إلى أن يستأنس الإنسان مع أشكال تطبيعية إلى درجة العادة والأمر الواقع.
الثاني؛ أن مبلغ التطبيع والتعاقد النفسي مع الأشكال العولمية التي تمس الجوانب القيمية في الإنسان، يصعب معها التخلص من تلك الأشكال وإعادة الاعتبار لتلك القيم بعد ذلك التطبيع. مما يتطلب جهدا ضافيا ومدروسا في تغيير الوضع القائم.
في خضم هذا التوجس الفكري والثقافي من الهيمنة المختلفة المشارب، كان من الطبيعي أن لا تتردد عدد من الأقلام الأكاديمية المقتدرة في السياق الإسلامي من محاولةٍ لتحرير هذا الإشكال برؤية مختلفة عما هو سائد ومتداول. ومن أبرز ذلك كتاب: “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة.
الصادر قبل ثلاث سنوات، للمفكر الألمعي الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية لعلماء المغرب، وهو من منشورات كلية أصول الدين بتطوان، التي ألقى فيها الكاتِب محاضرة واعية لمضامينه الأصلية.
في فكرة الكتاب المركزية
يأتلف هذا الكتاب الماتع في ناظم معرفي، يرصد فيه الكاتب سؤال العولمة المعاصرة بلغة نافذة بصيرة، وفكر نبيه، وقد وزع موضوعات عِقده بين سبعة مباحث، ستتولى هذه الورقة عرض أهم أفكارها.
ويفصح المؤلف منذ مستهل الكتاب عن مسوغ عملي أصيل في مطارحاته الفكرية، ويتمثل في فقه الواقع باعتباره شرطا مسلتزما للنهوض بالفكرة الإسلامية، بل إن ذلك المسوغ يتبعه آخر لا يقل قيمة اعتبارية، لتكون “هذه المطارحة لها مبرر مركزي وآخر بالتبع، أما المبرر المركزي فهو: أن تحقيق المناط يستلزم المعرفة بقرائن الأحوال ومستأنفاتها، وبتضاريس الواقع الذي يوجد فيه هذا المناط، وإذا لم يكن عندنا علم بالواقع، فإن إناطة الأحكام بمتعلقاتها وبمناطاتها يصبح أمرا في غاية العسر”([1]) وكل ذلك التحقيق الفكري والتشخيصي في عالم اليوم، لأنه مفارق كل المفارقة لما سبقه من عوالم موغلة في التاريخ، مما يتطلب استبصارا جديدا، وبأدوات حديثة تتناسب مع قضاياه وأسيقته، بل “إن عالم اليوم ليس هو العالم الذي كان يعرفه أسلافنا، ولا أجدادنا، ولا آباؤنا، ولا حتى نحن بالأمس القريب”([2]).
فمبحث العولمة والواقع، يستهله الدكتور أحمد باستشكال تعريف العولمة متسائلا “هل العولمة يمكن أن يحيط بها تعريف كلامي، أو حد جامع مانع؟ كما يقال، أم أن القضية تتجاوز ذلك؟”([3]) وهو سؤال بقدر صعوبة تحريره، يتعذر معه خوصصته بحضارة متعينة، لأن الحاصل في الأخير “أن العولمة ضرب من الميل الحضاري، فحين تصبح لحضارة معينة إمكانات تَفُوق إمكانات حضارة أخرى، يصبح عندنا نوع من التدفق الحضاري المؤثر، من الحضارة المهيمنة نحو الحضارة المُهَيمَن عليها”([4]).
إنما قد تتباين صور العولمة على تعددها زمنيا وحضاريا، بحسب ثابتها الحضاري المميز لها، لأن الحضارة الإسلامية مثلا، عرفت صورة هي الأخرى من العولمة، إنما ” كانت عولمةً قيمية بالأساس، وكانت عولمة فيها من النبل ومن الجاذبية، بحيث إنه لم يفتأ أئمة هذه الأمة يُذَكّرون بأن المسلمين بُعثوا دعاة، ولم يُبعثوا جباة”([5]).
وعولمة الأمة هذه، متفردة بقبلتها ووجهتها، “فقد سمي «أمة»؛ أي أن لها قبلة؛ وهي تتيمم شطرها، وتؤمّه انطلاقا من وجهات متعددة ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ (البقرة: 147)، فالأمة مشتقة من هذا الاعتبار؛ أي تيمم شطر قبلة معينة، والإمامة هي هذا الأَمُّ للجموع الحضارية أفرادا أو جماعات، نحو هذه القبلة الموحدة.”([6]) وعلى الرغم من ذلك، يبقى في نهاية التحقيق “أن القاسم المشترك بين جميع العولمات هو حضور مركزية معينة، وشخوص قطب جاذب متعارف عليه بين المنضوين تحتها. واستشعار الرسالة؛ أي وجود مركزية معينة”([7]).
وأما مبحث العولمة ومراتب الوجود، فيرى الدكتور أحمد أن العولمة باعتبارها ميلا حضاريا، فهي منظومة من “شبكة التمثلات المعتمدة لديها (التصورات، والقيم، والتشريعات، والسلوكات)”([8]) لأنه منها تستمد قوتها، وهذا ما “يشكل نقطة جذب للمنتظمات التي تنخرط في هذا التصور والتمثل للعالم، وهو عندنا يسمى العقيدة/الاعتقاد الذي يكتنز خارطة الوجود، ويزخر بقدرة تفسيرية هائلة للحياة والأحياء”([9]). إضافة إلى نقطة القوة والجذب هذه يتوثق معها عامل آخر مؤثر، وهو “الذي يمنح لحضارة تأهلها لأن تصبح رأس حربة عولمة، فهو متانة وسلامة سلسلة الإدراك”([10]).
لذلك، فإن الحالة العولمية المؤثرة وفقا للعاملين السابقين، يقتضي الاستناد إلى مراتب وجودية، قائمة بالمطلوب علما وعملا، وإن تحدث علماؤنا عن مراتب الوجود باعتبارها أربعة مراتب([11])، مضيفا إليها الكاتب مرتبة خامسة، بحسب مستجدات اليوم، ما نعته بمرتبة الوجود الافتراضي.