إفريقيا الفرنسية تحتضر وعلى ماكرون الاستعداد للمزيد من الصفعات
التأنيب الذي تعرض له الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من طرف رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشسيكيدي على رؤوس الأشهاد لا يمثل مجرد مشهد نادر من مشاهد التصادم بين رؤساء دول. فالنقد الذي يتعرض له الرئيس الفرنسي لم يعد حالات شاذة واستثنائية بقدر ما أصبح من ثوابت الزيارات التي يقوم بها إلى الدول الإفريقية. أينما حلّ ماكرون في القارة السمراء إلا ويجد نفسه محاصرا بالانتقادات والهجومات واللوم في أحسن الأحوال. وما صرّح به رئيس الكونغو الديمقراطية هو في الحقيقة لسان حال إفريقيا كلها. لم تعد البلدان الإفريقية شعوبا وحكومات تطيق هذه العقلية “الأبوية” كما سمّاها تشيسيكيدي التي توظفها فرنسا في تعاملها مع مستعمراتها السابقة.
لكن الأهم فيما حدث لماكرون في الكونغو، ومن المحتمل أن يحدث له في كل المحطات التي سيزورها في القارة السمراء، هو أنه يعكس دخول العلاقات الفرنسية الإفريقية عهدا جديدا مغايرا ومختلفا. نحن ببساطة على مشارف نهاية حقبة إفريقيا الفرنسية، ودخول مرحلة جديدة تتحرر فيها جل بلدان القارة من عقلية الوصاية التي تنظر بها باريس إلى هذه الدول، باعتبارها مجرد أنظمة فاسدة ومهزوزة يمكن استغلال ثرواتها المادية والطبيعية وحتى البشرية وإملاء السياسات والقرارات عليها دون استشارة أو نقاش أو حوار حقيقي بين الطرفين. العهد الذي كانت فيه باريس تقف وراء التحكم في اختيارات الأفارقة وفيمن يقود بلدانهم ولّى إلى غير رجعة.
والدليل على ذلك أن ما واجهته فرنسا وقواتها في النيجر ومالي وبوركينافاسو وإفريقيا الوسطى في السنوات القليلة الماضية يؤكد أن هذه الهيمنة تحتضر. وأن على السلطات الفرنسية أن تبادر بسرعة إلى التفكير في اتخاذ قرارات تاريخية وشجاعة من أجل الحفاظ على ما سيتبقى من جسور العلاقة مع هذه البلدان، خصوصا بعد أن اجتاحت الساحة الإفريقية قوى أخرى مؤثرة على رأسها الصين وروسيا. الصين أصبحت اليوم شريكا مؤثرا للعديد من الدول الإفريقية على مستوى مشاريع التنمية وتطوير البنيات التحتية، ويمكن الاستدلال بالعديد من الأمثلة على رأسها إثيوبيا، التي تمثل اليوم نموذجا لهذا النوع الناجح من الشراكات. وروسيا التي دخلت إلى عدد من البلدان كإفريقيا الوسطى لتغطية الفراغ الأمني والعسكري جاهزة أكثر من أي وقت مضى لتكون بديلا للقوات الفرنسية في مختلف المناطق.
والمغرب هو واحد أيضا من هذه الدول الصاعدة التي تقدم في إفريقيا نموذجا هادئا ومثمرا وناجحا عن تجربة التعاون جنوب-جنوب التي يكون فيها كل الأطراف بمثابة شركاء رابحين لا عبارة عن طرفين غير متكافئين أحدهما يلعب دور الوصيّ والثاني يخضع للوصاية. على سبيل المثال يقدم المغرب اليوم تجربة رائدة في تطوير القطاع الزراعي في القارة السمراء من خلال الشراكات التي يعقدها المكتب الشريف للفوسفاط من أجل بناء مصانع الأسمدة في مختلف البلدان الإفريقية. هل يُعقل أن تظل القارة الإفريقية الغنية بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها قارة المجاعات بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال عن فرنسا؟ ألا يرى الفرنسيون أن شركاتهم الكبرى كطوطال و”أريفا” التي تستغل الثروات الطاقية الهائلة للقارة السمراء تعمل في بلدان لا يزال أغلب سكانها عاجزين عن توفير الحد الأدنى من قوتهم اليومي؟
لقد خرجت إفريقيا من الجهاد الأصغر وهي الآن بصدد دخول الجهاد الأكبر. أي كفاح التخلص التام من العقلية الاستعمارية التي أثبتت فشلها في تنمية البلدان الإفريقية بل تأكد أنها من الأسباب الرئيسية التي تعيق أي إمكانية لتحقيق التقدم والتطور. وعلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يتخذ قرارات أكثر شجاعة وجرأة قبل أن يتلقى المزيد من الصفعات من طرف الرؤساء والقادة الأفارقة الذين لم يعد أمامهم الخيار في ظل هذا الوعي الشعبي الجارف لدى الأمة الإفريقية بأن الاستعمار لم يكن إلا وبالا على هذه القارة المنكوبة، وأنه لا يزال إلى اليوم السبب الرئيس في تعطيل قطار التقدم والتنمية.
المصدر: الدار- و م ع