غير مصنف

علي عزت بيغوفيتش وحلقة الوصل بين الشرق والغرب

د. منتصر حمادة

اشتهر علي عزت بيغوفيتش في الساحة العربية عبر بوابة العمل السياسي بالدرجة الأولى، مع أحداث البوسنة والهرسك، ولم يشتهر عبر بوابة العمل الفلسفي، إلا عند الباحثين والمتتبعين، وهذه كبرى جنايات أقلام المنطقة في حقل الراحل، خاصة أن بيغوفيتش كان حاضراً أكثر في الخطاب الإسلامي الحركي الذي روج له في فترة من الفترات، وبحكم تواضع أفقه المعرفي، بل ونفوره من الهم الفلسفي حينها، (قبل ولوج مرحلة "أسلمة الفلسفة" اليوم، في سياق "أسلمة المعرفة")، كان مُهيمناً على الساحة، عبر الدعاية الإيديولوجية وشبه الرسمية بسبب أحداث البوسنة.

وحتى العودة المحتشمة لبيغوفيتش المفكر أو الفيلسوف، بقيت حبيسة الإيديولوجية الإسلامية الحركية، كما تلخص ذلك مقالة بعنوان "الوجه الآخر لشخصية بيغوفيتش"، ونشرت في موقع "إسلام أون لاين" بتاريخ 14 يونيو 2016، وهو الموقع الذي في زمن ما، حيث الحديث عن "الرئيس الزاهد" و"القائد الصفوح" و"المسلم الشجاع" و"المناضل الذي لا يمل" كعناوين فرعية تعرضت للشرح والتفصيل، مقابل هذا الإقرار على صرف النظر عن البعد المعرفي في مشروع الرجل، بمقتضى ضيق أفق العقل الإسلامي الحركي، وإن كنا نعتقد أن انفتاح أتباع هذه المشاريع على أعمال الرجل، من شأ،ها أن تتسبّب في تحرر الأتباع من هذه السياجات، وقد عاينا نفس المعضلة مع العديد من الأعلام، حيث كانت أعمالهم شبه محرمة من التداول، قبل العودة إليها خلال العقد الأخير.

ولذلك نتوقف في هذه المقالة عند بيغوفيتش المفكر أو الفيلسوف ولا نتوقف عند بيغوفيتش الفاعل السياسي من فرط ما تناولت الأقلام الإسلاموية شخصية الفقيد منذ عقود، ولا زالت.

من بين أعمال الفقيد، نذكر على الخصوص "عوائق النهضة الإسلامية" (والعمل عبارة عن مجموعة من المقالات المتفرقة، يتحدث فيها عن النهضة الإسلامية والعوائق وعوامل البناء)؛ أو كتابه الآخر "هروبي إلى الحرية" (حيث تناول تجربة الاعتقال السياسي، لأنه كان يقبع في سجن فوتشا في الفترة ما بين (1983 – 1988)، وما تعرض له في عهد الماريشال اليوغوسلافي جوزيف تيتو. 

ولكن يبقى أهم عمل للفقيد، كتابه الشهير "الإسلام بين الشرق والغرب"، أو الكتاب الذي "هزّ أركان العالم الغربي كله" بتعبير مترجم هذا العمل القيّم، محمد يوسف عدس، والذي نترك له تقديم هذا العمل في هذه الفقرة: "هذا العمل "ليس كتاباً بسيطاً يمكن للقارئ أن يتناوله مسترخياً، أو يقتحمه من أي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك ثم يظن أنه قد فهم شيئاً، أو أنه قادر على تقييمه أو تصنيفه بين الأنماط الفكرية المختلفة. إنما على القارئ الجاد أن يحتشد له ويتهيأ للدخول في عالم كتاب ثري بأفكاره متميز بمنهجه أخاذ بأسلوبه وقوة منطقه وثقافة صاحبه العميقة الواسعة. فمؤلف الكتاب متمكن من الثقافتين الإسلامية والغربية معا. فهو مسلم حتى النخاع وأوربي بالمولد والنشأة والتعليم. لقد استوعب الفكر الغربي ولكنه لم يغرق فيه. ولم يجهل أو يتجاهل مواطن القوة وجوانب الإنسانية فيه. ولكنه في الوقت نفسه – وهو ينظر من داخله – أدرك فيه مواطن الضعف والتناقض والقصور. واستطاع علي عزت بقدرته التحليلية أن يطلعنا على حقائق لم تستلفت انتباهنا من قبل أو نضعها في موضعها الصحيح. ويتسق منهجه التحليلي في تقصي الحقائق مع هدفه الذي عبر عنه بقوله: "لكي نفهم العالم فهما صحيحا لابد أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم وأن نعرف معانيها". 

يرى بيغوفيتش، أننا أمام ثلاث وجهات من النظر متكاملة عن العالم، وهي: النظرة الدينية والنظرة المادية والنظرة الإسلامية، وتعكس وجهات النظر هذه ثلاث إمكانيات مبدئية، هي: الضمير، والطبيعة، والإنسان، وتتمثل كل منها على التوالي في المسيحية والمادية والإسلام. وسنجد أن جميع الإيديولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية من أقدم العصور إلى اليوم، في التحليل النهائي، يمكن إرجاعها إلى واحدة من هذه النظرات الثلاث العالمية الأساسية.

يُعَرِّج بيغوفيتش على سر بقاء تظل ظاهرة الحياة الجوانية أو التطلع إلى السماء مستعصية على أي تفسير منطقي، ويبدو أنها نزلت من السماء "نزولاً حرفياً" ولأنها ليست نتاجا للتطور، فإنها تقف متعالية عنه مفارقة له. لقد كانت رؤية نيتشه "للسوبرمان" من إلهام داروين. فالتطور يتجاوز الإنسان، ويبقى بسيطاً ومنطقيا لأنه يظل محدوداً في نطاق الطبيعة. إن الحيوان الأمثل هو نتيجة التطور، ومن حيث هو كذلك فإنه كائن بلا حياة جوانية، بدون إنسانية أو مأساوية أو شخصية أو قلب…إنه القزم الخارق الذي خرج من أنبوبة اختبار الدكتور "فاوست". وحتى وقت قريب، كانت نظرية داروين تعتبر هي التفسير النهائي لأصل الإنسان، مثلما كان يعتقد أن نظرية نيوتن هي النظرية النهائية بالنسبة للكون، ولكن لما أصبحت فكرة نيوتن الميكانيكية عن الكون مشكوكاً في صحتها، كذلك أصبحت نظرية داروين عن الإنسان في حاجة إلى تجديد.

لسبب مؤرق للغاية عند المروجين للنظرية، على اعتبار أن نظرية التطور لم تستطع، ولن تقدر على أن تفسر بطريقة مقنعة ظهور التدين في الحياة البشرية، ولا وجود هذه الظاهرة في العصور الحديثة. ومن الأسئلة الدقيقة التي يطرحها بيغوفيتش، نقرأ مثلاً التساؤل عن السبب الذي يجعل الناس نفسياً أقل شعوراً بالاكتفاء عندما تتوافر لهم متع الحياة المادية أكثر من ذي قبل؟ لماذا تزداد حالات الانتحار والأمراض العقلية مع ارتفاع مستويات المعيشة والتعليم؟ ولماذا لا يعني التقدم مزيداً من الإنسانية أيضاً؟

من مهام الدين والفن والفلسفة، حسب بيغوفيتش، توجيه نظر الإنسان إلى التساؤلات والألغاز والأسرار. وقد يؤدي هذا أحياناً إلى معرفة ما، ولكن في أغلب الأحيان يؤدي إلى وعي بجهلنا، أو إلى تحويل جهلنا الذي لا نشعر به إلى جهل نعرف أنه جهل. 

ينتقد المؤلف بشدة تقليص الإنسان إلى مجرد وظيفة إنتاجية استهلاكية، مفنداً أن يكون الاختزال ـ ولو كان له مكان في عمليات الإنتاج والاستهلاك ـ علامة على الإنسانية، بقدر ما يمثل سلباً لإنسانيته. من منطلق أن تدريب البشر على أن يكونوا مجرد منتجين، وتنظيمهم في صفوف المواطنين الصالحين، هو لا إنساني أيضاً. وبالمثل، يمكن أن يكون التعليم لا إنسانياً إذا كان عملية من جانب واحد، موجهاً وقائماً على تلقين تعاليم حزبية، إذا لم يكن يعلم الفرد كيف يفكر بطريقة استقلالية، أو إذا كان يقدم إجابات جاهزة، أو يعد الناس فقط للوظائف المختلفة بدلاً من توسيع أفقهم، بالتالي حريتهم، وهذه رؤية ثاقبة تذكرنا بالذي حفلت به رائعة "1984" التي حرّرها الروائي البريطاني جورج أورويل.

قلة قليلة من أقلام الساحة، مؤهلة للخوض في القواسم المشتركة بين الفن والدين، ويوجد بيغوفيتش ضمن هذه الفئة، ويرى أن ما يخبرنا الفن شيء يفوق قدرتنا على التصديق، كأننا إزاء رسالة دينية، كما هو الحال مع اللوحات الجصية اليابانية القديمة، أو قطعة من فن الأرابيسك الإسلامي على مدخل فناء قصر الحمراء بغرناطة، أو قناع من جزر الميلانيزيا، أو رقصات قبيلة في أوغندا، أو لوحة يوم الحساب لمايكل أنجلو.. أو أغنية روحية زنجية، ولسوف نجرب شيئاً غامضاً ملغزاً فوق المنطق والمعقول كما تشعر في الصلاة: ألا يبدو عمل من أعمال الفن التجريبي لا عقلي ولا علمي كأنه شعائر دينية؟ إن اللوحة الفنية بشكل ما، هي نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش، كما أن السمفونية شعائر لحنية.

واضح أن المشاريع الدينية الطائفية التي كانت تعادي الفن، لا يمكن أن ننتظر منها الاشتغال على التعريف بأعمال بيغوفيتش الفيلسوف والحكيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

16 + 13 =

زر الذهاب إلى الأعلى