ظَاهِرةُ “الشّيْخِ” و “المُريدِ” في المَشْهَدِ السّيَاسِيّ المَغرِبي
د. بوجمعة العوفي
لن نتحدث هنا، كما قد يتبادر إلى الذهن، عن الكتاب الشهير " الشيخ والمُريد "، للأنثروبولوجي المغربي المعروف " عبدالله حمودي "، هو الذي حاول من خلال كتابه تحليل ومقاربة النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، وتفكيك ظاهرة السلطوية داخل المجتمعات العربية، وخاصة المجتمع المغربي. إذ يركز الباحث، في هذا الكتاب، على تحليل السلطة وعلاقات الحُكم، وذلك من أجل فهْمٍ مغاير لبنية السلطة في المغرب، ضمن نوع من المقارنة بمثيلاتها بالمنطقة المغاربية والعربية، هو الفهم الذي كانت قد كرسَتْه، ربما بالكثير من اليقينيات وعدم الفهم، مختلف التأويلات السائدة في حقل الأنثروبولوجيا الثقافية لبنية وطبيعة هذه السلطة على وجه الخصوص؟
المقصود هنا، وبكل بساطة، إعادة تشغيل رمزية عنوان الكتاب نفسه من أجل مناوشة ممكنة أيضا لظاهرة أخرى ( التبَعية وتقليدانية المشهد السياسي المغربي )، هي الظاهرة التي لا تَقِلّ أهمية، في نظرنا، عمّا تناوله " عبد الله حمودي "، على مستوى دراسة علمية مستفيضة ورصينة، لا مجال لمقارنة أهميتها أيضا بما نحاول طرحه في هذا المقال المتواضع والمقتضب إن صح التعبير؟ حيث تكون غايتنا وحُجتنا الأساسية في هذا المقام، استدعاء أو استحضار ظاهرة "التَّخْنَاشْ" من مجالها الديني في المغرب، ومحاولة تشغيل بعض تقابلاتها الدلالية في المجال السياسي المغربي عموما، والحزبي منه على وجْه الخصوص.
والجدير بالذكر كذلك في نفس السياق، بأن الكثير من المغاربة لا يعرفون اليوم ظاهرة " التَّخْنَاشْ " التي تنتمي إلى مَوْرُوثِهم الثقافي القديم، حيث ظلت هاته الظاهرة مرتبطة بطرق التعليم الديني التقليدي، ومِنْ ضمن ما تعنيه في هذا الموروث: احتِضَانُ المغاربة وتكَفّلُهُم بحفَظةِ القرآن الكريم من الشباب واليافعين، وهجرة هؤلاء إلى بعض المساجد والرّبَاطات والزوايا الدينية، التي كانت متمركزة بشكل أساس في شمال المغرب وجنوبه ( جبال طنجة ومنطقة سوس )، بحيث كان على طالب العِلْم الجديد أو المبتدئ آنذاك أن يُقِيم زاهدا ومرابطا بإحدى هاته الأماكن لفترة معينة، ويخضع لقوانينها الصارمة ولإشراف فقهائها وشيوخها الكبار، حتى يتمكن من حِفْظِ كتاب الله وفهمه وترتيله، إضافة إلى تَعَلّمِ أصول الفقه والنحو وبعض علوم الدين وغيرها.. ومن ثَمَّ، يَبْلُغ الطالب أو " المحَضْري " مرحلة التخرج، ويَشْرَع حينها في البحث عن " عمل " أو " منصب " كإمام، مثلا، في أحد المساجد أو مُدَرِّسا في كتاتيب ودُور تعليم القرآن في المدن والقرى النائية.
فيما يُشْبِهُ نفس الوضع ونفس التقابُلات الدلالية والرمزية، يمكننا الحديث اليوم في مغربنا وفي عالمنا العربي والإسلامي، الذي ما زالت تطبعه الكثير من التراتُبيات والممارسات والتصورات التقليدية والتقليدانية في السياسية والاقتصاد والاجتماع، عن ظاهرة " التَّخْناشْ السياسي "، فـما أَشْبَهَ اليوم بالبارحة ! إذْ ما زالت نفس الظاهرة ونفس التّقابُلات الدلالية والرمزية قائمة في مشهدنا السياسي الراهن بشكل واضح وصريح، حيث ما زال بوسعنا أيضا تشبيه الكثير من أحزابنا السياسية وجمعياتنا " الكُبرى " بالرّباطات والزوايا الدينية، و" الزعيم " أو " الفاعل " الجديد، القادم إلى حقل السياسة بـ " المحَضْري " المتدرب، الذي يكون عليه أن يخضع بدوره، ليس فقط لإشراف الشيخ – الزعيم وسلطته، بل حتى لنزواته و" بَركَاته " النَّافعة كذلك، حتى يتمكن هذا الوافد الجديد من الحصول على منصب قار ومحترم في الحزب: ما دامت المسئوليات في أحزابنا قد أصبحتْ مصدرا للوجاهة والثروة والنفوذ، ومناصب تؤدي بدورها أيضا إلى مناصب سامية أخرى في الحكومات ودواليب الدولة المريحة والناعمة.
والمتأمل، من زاوية أخرى، لمشهدنا السياسي المغربي الراهن، يستطيع كذلك، ومن دون جُهد كبير، التعرف على الكثير من "الفُقهاء" و"الزعماء" السياسيين الجدد ( يمينا ووسطا ويسارا )، والذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة وحظوة مرموقتين في الحزب وفي الدولة عن طريق ظاهرة أو عملية " التَّخْنَاشْ " السياسي، ثم بفضل الخصائص السحرية لعملية الاحتضان أو التبني من طرف زعيم الحزب أو رئيس الجمعية أو شيخ الزاوية ( لا فرق ! )، وبالرغم من أن نفس التشابهات ما زالت قائمة عندنا بين ظاهرتيْ " التّخْنَاش " الديني و " التّخْنَاش " السياسي شكليا أو ظاهريا على الأقل، إلا أن الكثير من الفروقات الجوهرية قد تبدو واضحة بين الظاهرتين كذلك، ليس فقط فيما يتعلق بالغاية وبنوعية التكوين، ونوع الشواهد وحجم التزكيات والصلاحيات التي يمكن للمتخرج الحصول عليها من هاته المؤسسات، بل فيما يتعلق أيضا بنوعية " الشيوخ " و "المريدين"، وبطبيعة "المُعلمين" و"المُتعلمين"، ثُم بقدرات وطموحات وتَسَلّقَات "المخنِّشين" و"المُخَنَّش" لهم على حد سواء.
وليس كل من مَرَّ بمرحلة " التَّخْنَاش " ومؤسساته القديمة والمُستحدثة، أو خضع لتكوينها وأقام بأقسامها " الداخلية " كذلك، قد يصبح بالضرورة فقيها أو زعيما سياسيا ناجحا ومحنكا، لدينا الكثير من النماذج والأمثلة : إذ يكفي الضغط على زر تشغيل جهازنا العجيب المُسمى بـ " التلفزيون " لنكتشف هذا الجيش أو الكم الهائل من المتخرجين من مؤسسات " التَّخْنَاشْ " السياسي والديني المغربي، ونرى كيف يَشْرَعون، بقدرة قادر، في التنظير ليوتوبيا السياسة وعافية الاقتصاد وصلابة الاجتماع، ويبشرون بغد أفضل لشعب وكأنه يقطن في السويد !
شخصيا، كانت لي الكثير من العلاقات، والكثير من الأصدقاء من هؤلاء المتخرجين أو المُتنفِّعين من مؤسسات " التّخْنَاش " السياسي المغربي، منهم المُدراء والعُمَداء وحتى الوزراء .. لكنهم بعد استكمال التكوين وحفلات التخرج، تنكروا بالكامل لي ولشيوخهم وللكفيل ولمؤسسات " تَخْنَاشِهِم " السياسي .. و" اللَّهُمَّ أدِمْها نعمة واحفَظْها من الزوال "، أو لنقل فقط: " اللَّهُمَّ لا حسد " .. !
مع ذلك، لن ألوم هؤلاء وأولئك في شيء، اقتداءً بعبارة " الزعيم " ( الأستاذ عبد الإله ) الشهيرة: " عفا الله عمّا سلَف "، هو " الشيخ " الذي أسس في المشهد السياسي المغربي المعاصر مدرسة جديدة وخاصة به في مجالات " التّخْناَش " الديني والسياسي، تَخَرّج منها جيل جديد – قديم من " المُخنّشِين "، إذ ما زالت أفضال هذه المدرسة جارية وقائمة على الكثير من حوارييه ومُريديه، بل على العكس من ذلك، يمكنني، ومن باب " الواجب الوطني " وعدم احتكار النّصح والمعرفة، كما يقال، تقديم النصيحة والوسيلة لمن أراد أن يَلِجَ من المغاربة بعض " الأقسام التحضيرية " أو " المعاهد العليا " لـ " التّخْنَاش " الحزبي والسياسي، قياسا أيضا ( صياغة ومعنى ) على النصيحة الماكرة والمعروفة لدى " أُولِي الألْبَابِ "، والتي كان واحد من فقهاء المغرب القدامى والمتضلعين في علم النحو ، قد قدّمها لطالب جديد يريد أن يتعلم النحو.
قال الفقيه، عفا الله عنّا وعنه، بلسان دارِج لا يقبل الشك:
يا السّايلني عْلى أمُور " التّخْناش " / قَرّبْ عَنْدي نَعطِيكْ ايْفَادَة / راه سَرّي مَا يَخْفَاش / دَبّرْ ليِكْ عْلى حِزْب وزَوّادَة / بَاراكا مَ التّفْتَاشْ / راه السّياسَة وْلاّدَة / الهَمْزة والتّبْقاشْ / عَمّرْ لِيكْ الزّوّادَة / مَا تبْقاشْ بْلاشْ / خُوذْ مَنّي لِيفَادَة / الحَلْ دِيما فَالتّخنَاشْ / أَوْ عَنْدْ شِي بُوقَرفَادَة / جِيبْ الحَنْشَة / دِيرْها فَالخَنْشَة / وَتَّخْشَا كِيفْ هَادُوكْ قَبْلَكْ تَّخْشَاوْ .. !