هل يكرس الإفراج عن معتقلي الريف نهج الدولة المتسامحة؟
الدار/تحليل
قبل أكثر من ربع قرن بدأ العهد الجديد بمرحلة طويلة من المصالحة والعفو وطيّ صفحة الماضي. ونجح الملك محمد السادس مباشرة بعد توليه عرش أسلافه الميامين بناء أسس مجتمع متصالح مع ماضيه منسجم مع تاريخه، يضمد جراحه القديمة بهدوء ويؤسس ضمانات مجتمع لا يتكرر فيه ما جرى في سنوات الرصاص. هذه الميزة التي وسمت هذا العهد لم تكن مجرد سمة ظرفية في مرحلة من مراحل التاريخ، بل ظلت باستمرار سلوكا تنهجه المؤسسة الملكية في بلادنا من أجل التخلص من عثرات التقدم ومعوّقات التغيير. وعلى غرار ما جرى في هذه المحطات العديدة شهدت بلادنا قبل أيام قليلة بمناسبة ذكرى عيد العرش عفواً ملكياً تاريخياً شمل عددا من المعتقلين والصحافيين المدانين في قضايا مختلفة.
رأى الكثيرون في هذا العفو التفاتة ملكية سامية تّجاه مواطنين مغاربة اقترف بعضهم أخطاء في غمرة الانشغال بهواجس المهنة وحسابات الصراعات السياسية. واليوم تستعد بلادنا لإحياء ذكرى عيد الشباب التي من المرتقب أن تشهد أيضاً انفراجة سياسية كبيرة إذ من المرجح أن يشمل العفو الملكي معتقلي حراك الريف بدءاً بناصر الزفزافي وصولا إلى عدد من المعتقلين الذين قادهم الزخم الاحتجاجي الذي شهدته المنطقة قبل أكثر من 7 سنوات إلى السجن. وتبدو شروط هذا العفو الشامل مكتملة اليوم بعد أن قطعت بلادنا أشواطا طويلة في إقرار الضمانات الكبرى لاحترام حقوق الإنسان والقضاء العادل واحترام الكرامة الإنسانية في مختلف أبعادها.
وقد يشكل هذا العفو الملكي على معتقلي حراك الريف خطوة تاريخية إضافية نحو بناء دولة الحق والقانون وتعزيز السمعة الدولية لبلادنا باعتبارها دولة رائدة في مجال تكريس الضمانات الحقوقية واحترام الحريات. فعلى الرغم من أن الاعتقال الذي تعرّض إليه معظم المعتقلين على خلفية حراك الريف كان وفقاً لاعتبارات قضائية وأمنية مبررة، وتعاملا قانونيا مع الكثير من المخالفات والجنايات الخطرة التي تورط فيها البعض، إلا أن الطابع السياسي الذي ظل ملازما لهذا الحراك وما تلاه من تداعيات يجعل هذا العفو الجديد خطوة ضرورية في المرحلة الراهنة، للدفع ببلادنا نحو آفاق أكثر دمقرطة وعدالة وإنصافا. يجب ألّا ننسى أننا مقبلون بعد سنتين على انتخابات تشريعية جديدة تحتاج إلى مناخ سياسي وحقوقي ملائم وهادئ.
ولنكن أكثر واقعية وإنصافا في قراءتنا لهذا العفو المحتمل. لقد قدمت الدولة المغربية كافة الضمانات القانونية والحقوقية من أجل أن يحظى معتقلو حراك الريف بمحاكمة عادلة ومنصفة. وجرت هذه المحاكمات في احترام تام لحقوق الدفاع مع التزام كامل بحيثيات المعالجة القضائية القانونية المستندة إلى المقتضيات الجنائية الجاري بها العمل. كما أن هذه المحاكمات جرت بعيدا عن أيّ ضغوط أو ممارسات مرفوضة، بل لقد نظرت السلطات المعنية في كل الادعاءات التي قدمها بعض المعتقلين حول تعرّضهم إلى بعض أشكال التعذيب وتم اتخاذ المتعيّن تّجاهها. ومع ذلك فإن هذه الدولة المغربية نفسها هي التي تفتح باستمرار باب المصالحة وتترك فسحة العفو لأنها تؤمن بجدوى الرأفة والبعد الإنساني في مداوة الكثير من الجروح وتهدئة الكثير من بؤر التوتر.
سيشكل الإفراج عن معتقلي الريف إذاً في الظرفية الحالية عرساً حقوقياً حقيقياً تحتاج إليه بلادنا حاجة ماسة في الوقت الحالي. كما أنه سيمثل لبنة جديدة في بناء جسور الثقة بين الشباب والمؤسسات، على الرغم من أن كل حالات الاعتقال والمحاكمة التي جرت في هذا الملف كانت على خلفية اتهامات واضحة. مع ذلك فإن استعادة منسوب الثقة وتعزيزه لدى فئات واسعة من المغاربة يستند أيضاً إلى هذه المبادرات التي تحسم حالات التوتر والتشنج والاحتقان السياسي. لن تخرج الدولة المغربية إذاً عن نهجها الاستراتيجي الراسخ الذي يراهن على المصالحة والعفو من أجل تكريس التهدئة والسلم وإعادة الاعتبار للدولة المتسامحة التي ألفناها منذ 1999، وستكتسب تجربتنا الديمقراطية الرائدة في المنطقة المزيد من أسباب التطور والاستمرارية.