تخليق الحياة الحزبية يعود إلى واجهة الرهانات الوطنية
الدار/ تحليل
الجدل المثار داخل حزب الأصالة والمعاصرة بشأن تجميد عضوية صلاح الدين أبو الغالي عضو المكتب السياسي يعيد إلى الواجهة مسألة تخليق العمل السياسي والحزبي في بلادنا. ما يحدث في حزب الأصالة والمعاصرة مجرد مثال حيّ حول ظواهر شائعة في كثير من الهيئات الحزبية وتحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى التعامل معها بقدر كبير من المسؤولية والديمقراطية والإنصاف في أفق ترسيخ ممارسات حزبية أكثر انضباطا واحتراما لأخلاقيات العمل السياسي. ونحن على بعد أيام من افتتاح الدورة التشريعية الجديدة للبرلمان تزداد راهنية هذا السؤال ولا سيّما أن جلالة الملك محمد السادس دعا في خطابات افتتاح هذه الدورة إلى المزيد من التأهيل الذاتي للمشهد الحزبي.
من المؤكد أن التجربة الديمقراطية في بلادنا بلغت مرحلة متقدمة في وضع الأسس وترسيخ الممارسات وإنتاج التقاليد والأعراف الراسخة. على سبيل المثال يذكّرنا التزام المؤسسة الملكية بالمنهجية الديمقراطية المنصوص عليها في الدستور بأن الإرادة السياسية العليا تدفع باستمرار نحو العمل على بناء المجتمع السياسي الديمقراطي والحداثي الملتزم بالقواعد الدستورية والقانونية، وهي تعطى من خلال ذلك مثالا حيا عمّا يجب القيام به من طرف الفاعلين السياسيين كلهم، بما في ذلك قادة الأحزاب السياسية وقياداتها الكبرى وقواعدها بل وحتّى المتعاطفين معها. ومن الضروري أن نشير في هذا السياق إلى أن تخليق الحياة السياسية أصبح منذ زمن طويل هدفا من الأهداف الأساسية التي تصبو إليها بلادنا.
على سبيل المثال لا الحصر دعا الملك محمد السادس في شهر يناير الماضي في رسالة موجهة إلى المشاركين في الندوة الوطنية المنعقدة تخليدا للذكرى الستين لقيام أول برلمان منتخب في المملكة إلى تخليق الحياة البرلمانية من خلال إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها، تكون ذات طابع قانوني ملزم. وقبل هذه الدعوة لم يتردد جلالته في تشخيص واقع الحياة السياسية والحزبية، وتوجيه الانتقادات الموضوعية والتوصيات اللازمة لبناء مجتمع سياسي قادر على مواكبة التطور المسجل في العديد من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية في بلادنا. ولن نبالغ إذا قلنا إننا نشعر أحيانا بوجود فجوة بين ما تنجزه المؤسسات التنفيذية في بلادنا من أوراش ومشاريع وبين الممارسات الشائعة داخل العديد من الهيئات الحزبية.
في يوليوز 2019 وجه جلالته بمناسبة خطاب العرش دعوة صريحة إلى الهيئات الرسمية والحزبية من أجل العمل على تجديد نخبها وإفراز كفاءات قادرة على مواكبة البرامج والمشاريع الجديدة. وأشار جلالته حينها إلى أن هذه المرحلة “ستتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيئات السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة”. وبعد مرور أكثر من 5 سنوات على هذه الدعوة ما يزال رهان تجديد النخب وتصعيد أفضل الكفاءات إلى واجهة القرار والقيادة تحديا حقيقيا يواجه العديد من الهيئات الحزبية. ولعلّ التعثر الملحوظ في هذا المجال هو الذي يفرز من حين إلى آخر بعض حالات الانفلات والخروقات التي تثير أزمات داخلية، لأننا نعتقد أن أزمة التخليق جزء من أزمة التجديد.
تطرح هذه الأزمة الأخلاقية والتنظيمية على الأحزاب السياسية إذاً تحديا كبيرا من أجل العمل في المستقبل القريب على مواكبة الخيار الديمقراطي الذي يؤكد جلالة الملك باستمرار أنه خيار استراتيجي ووطني يجب أن تسير فيه كافة المؤسسات والهيئات إلى أبعد مدى. ومن المفيد جدا لهذه الهيئات الاقتداء ببعض التجارب الناجحة في بعض الأحزاب السياسية التي استطاعت أن تؤسس ممارسة ديمقراطية نموذجية إلى حد كبير، وقادرة على توفير تجربة تنظيمية سلسة بعيدة عن الصراعات الداخلية وتضارب المصالح المعوّق لأدوارها ومسؤولياتها الفكرية والسياسية والتأطيرية. فلا يمكننا أبدا أن نرسم صورة قاتمة كليا للمشهد الحزبي لأننا ندرك أهميته التجربة التعددية في بلادنا.