فاتح ماي صرخة الكرامة في وجه الإستغلال…

الدار/
ذ/ الحسين بكار السباعي*
في كل فاتح ماي، تنهض الذاكرة الجماعية للطبقة العاملة عبر العالم ، لتوقظ الضمائر، وتستنهض ما خفت من جذوة النضال العمالي في وجه الطمس والتهميش والإستغلال . إنه اليوم الذي لا يقاس بالشعارات والخطابات فقط، بل بما يحمله من رمز لدماء سالت في سبيل العدل، ومن زخم لم ينطفئ رغم محاولات التدجين والتطويع .
فاتح ماي ليس مجرد يوم، لإحياء ذكرى عابرة، بل تجديد لعهد مع النضال والإصرار على مزيد من النضال ، إنها اليوم محطة لتقييم واقع عمالي ، ما فتئ يمعن في التراجع عن المكاسب وتقويض صروح الحقوق.
لقد ابتدأ التاريخ العمالي من لهيب المعاناة ومن شوارع الغرب ، حين خرج العمال في أواخر القرن التاسع عشر يطالبون بما لا يزيد عن ثماني ساعات عمل تحفظ للإنسان آدميته، فقوبلوا بالرصاص والقمع، وسطرت أسماؤهم في ذاكرة الإنسانية شهداء الكرامة. ومنذ تلك اللحظة، لم يكن فاتح ماي يوم إحتفال بل صرخة، ولم يكن مناسبة للفرح بل وقفة للمساءلة وإستنهاض الوعي الجمعي.
واليوم، بعد عقود من التضحيات، نجد أنفسنا نرافع لا فقط من أجل صيانة مكتسبات الأمس، بل لدرء إنتكاسات الحاضر. فالهشاشة صارت القاعدة، والإستقرار استثناءا، والعمال يدفعون إلى الهامش في معركة غير متكافئة مع الرأسمالية المتوحشة . اليوم شاهد على إنهيار الأجور تحت وطأة الغلاء غير المسبوق، و اليوم شاهد كذلك على إستنزاف الطاقة في أعمال موسمية تفتقر لأبسط مقومات الكرامة وإحترام قانون الشغل ، لتجهض أحلام العمال في دوامة البطالة، خصوصاً بين الشباب والنساء.
ومع أن دستور المملكة المغربية ينص صراحة على الحق في الشغل والحماية الإجتماعية والمفاوضة الجماعية، كما يقر بحرية الانخراط النقابي ويحظر التمييز، فإن التطبيق العملي كثيرا ما يصطدم بجدار التجاهل والتقاعس، بل أحيانا بالتضييق والتجريم. فالفصل 29 من الدستور، الذي يضمن الحق في الإضراب، ووجه بقانون تنظيمي يقيده ويجرمه ، والإتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة، وعلى رأسها اتفاقيتي منظمة العمل الدولية رقم 87 و98، تفرغ من مضمونها في غياب ضمانات فعلية لممارستها.
وإننا إذ نحيي هذه الذكرى، فإننا لا نفصل النضال الإجتماعي عن السياق السياسي، إذ لا يمكن فصل أزمة الشغل عن خيارات إقتصادية إرتجالية، ولا فصل الإجهاز على الحقوق عن منطق تقنيني يخدم من يملكون وسائل الإنتاج، لا من ينتجون الثروة بعرقهم كل يوم.
إن العدالة الاجتماعية لا تختزل في مبالغ الدعم الظرفية، بل تقاس بمدى تمكين العمال من شروط العيش الكريم، وتكافؤ الفرص، وولوج الحقوق دون إذلال أو إنتقائية.
فاتح ماي ،يجب أن يكون مناسبة للقطع مع منطق التذمر الصامت، ولإعادة الروح إلى التنظيم النقابي المستقل، وللترافع من موقع الفاعل لا الضحية، فالمكاسب لا تمنح بل تنتزع، والنضال ليس موسميا بل مشروع تحرر دائم. لقد آن الأوان لاستعادة زمام المبادرة، لفرض حوار إجتماعي حقيقي، ولنعلي الصوت جميعا رفضا لتغول الريع ومأسسة اللاعدالة، وتثبيتا لمكانة العامل كمحور في معادلة التنمية لا كرقم هامشي.
ختاما ، ليكن هذا اليوم إذن وقفة إحتجاج لا احتفال، ومرافعة لا إستعراض، وتجديدا للعهد لا طيا للصفحة. لأن الكرامة لا تستجدى، والحقوق لا تؤجل، وفاتح ماي ليس آخر الطريق ،بل بدايته المتجددة…
*محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان.