الجزائر بين المناورة والخيانة: كيف انقلب النظام الجزائري على روسيا بعد الحرب الأوكرانية؟

الدار/ إيمان العلوي
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية سنة 2022، ظهر النظام الجزائري في موقعٍ غامض ومزدوج، يرفع شعارات “الحياد” و”عدم الانحياز”، لكنه في العمق اختار مساراً نفعياً لا يخلو من التآمر على موسكو التي كانت لعقود أحد أبرز حلفائه الاستراتيجيين. الجزائر التي بنت ترسانتها العسكرية وتوازنها الجيوسياسي على الدعم الروسي، سرعان ما غيّرت اتجاه بوصلتها حين رأت أن الغرب يفتح أمامها أبواب أوروبا كبديل محتمل للغاز الروسي، لتبدأ مرحلة جديدة من المناورة والاصطفاف المبطّن ضد روسيا.
في العلن، واصل الخطاب الرسمي الجزائري الحديث عن “علاقات صداقة تاريخية” مع موسكو، وعن “تعاون استراتيجي متين”، لكن خلف الكواليس، كانت التحركات في الاتجاه المعاكس تماماً. منذ السنة الأولى للحرب، بدأت الدبلوماسية الجزائرية تقترب بحذر من كييف، عبر وساطات واتصالات غير معلنة، نقلتها مصادر دبلوماسية أوروبية موثوقة، لتسهيل حوار “غير رسمي” مع أوكرانيا برعاية أوروبية. الهدف الحقيقي لم يكن الوساطة، بل اختبار إمكانية تموضع جديد يجنّب الجزائر أي عزلة في حال هزيمة روسيا أو ضعفها على الساحة الدولية.
وما يعزز هذا التحوّل أن الجزائر فتحت قنوات غير مباشرة مع المسؤولين الأوكرانيين عبر برلين وباريس، وشاركت في لقاءات “سرّية” تتعلق بخريطة الطاقة بعد الحرب، حيث عرضت على الأوروبيين زيادة إمدادات الغاز وتعويض جزء من النقص الناتج عن العقوبات المفروضة على روسيا. وبذلك، تحوّلت الجزائر من شريكٍ يعتمد على موسكو إلى منافسٍ يستغل ضعفها لكسب ود الغرب. هذه المقاربة البراغماتية، التي يقدّمها النظام كـ“دفاع عن مصالح الجزائر”، تُخفي في الواقع عملية انقلاب دبلوماسي على الحليف الروسي، وتخلياً ضمنياً عن سياسة “الوفاء التاريخي” التي طالما تفاخر بها قادته.
بل إن موسكو نفسها، وفق تحليلات منشورة في مواقع دولية مثل Modern Diplomacy وThe Washington Institute وISPI Italy، بدأت تُبدي امتعاضاً واضحاً من السلوك الجزائري. فبينما كانت روسيا تنتظر من الجزائر موقفاً داعماً في الأمم المتحدة، اختارت الأخيرة الامتناع أو الغياب عن التصويت في القرارات المتعلقة بإدانة الحرب الروسية، وهو ما قرأته موسكو كإشارة إلى أن الجزائر لم تعد تُراهن على الحليف القديم. الأكثر من ذلك، أن بعض التقارير الاستخباراتية الأوروبية تحدثت عن دعم تقني محدود قدمته الجزائر لأوكرانيا في مجال الطاقة والاتصالات عبر وسطاء أوروبيين، مقابل امتيازات اقتصادية من الاتحاد الأوروبي، في ما يمكن اعتباره “طعنة” في الظهر لحليفٍ عسكري واقتصادي تقليدي.
هذا التحوّل لا يمكن فصله عن سعي النظام الجزائري لتلميع صورته في العواصم الأوروبية بعد سنوات من التوتر، فالحرب الروسية كانت فرصة ذهبية للجزائر لإعادة تموضعها كلاعبٍ مقبول في السوق الأوروبية، مستفيدة من تعطّش القارة العجوز للغاز. وهكذا وجد النظام في الأزمة الأوكرانية مناسبة لتقديم نفسه بوجهٍ جديد: “البديل الآمن عن روسيا”، في وقتٍ كانت فيه موسكو بحاجة إلى حلفائها أكثر من أي وقت مضى.
لكن هذا “الذكاء الدبلوماسي” الذي يحاول النظام تسويقه ليس سوى ازدواجية مريبة تُظهر كيف يمكن للسلطة الجزائرية أن تغيّر تحالفاتها وفق مصالحها اللحظية، حتى على حساب شركائها التاريخيين. فمن حليفٍ عسكري وفيٍّ لروسيا، إلى منافسٍ في سوق الغاز ومتعاطفٍ ضمني مع أوكرانيا، تسير الجزائر على حبلٍ دقيق بين موسكو وبروكسل، لكنها في النهاية تُثبت أنها لا تملك سياسة خارجية قائمة على المبادئ، بل على المساومة والمناورة.
لقد خسر النظام الجزائري الكثير من مصداقيته في نظر موسكو، وبدأت العلاقات تشهد بروداً واضحاً رغم محاولات الإبقاء على المظاهر الدبلوماسية. روسيا تدرك أن الجزائر لم تعد تلك الحليفة الموثوقة، وأنها باتت تميل أكثر نحو الغرب كلما اقتربت مصالحها من بوابات أوروبا. أما الجزائر، فترى في كل تحوّل فرصة لابتزاز الطرفين: روسيا من خلال الصفقات العسكرية، وأوروبا من خلال الغاز.
هكذا يظهر المشهد اليوم: موسكو تنظر إلى الجزائر بعين الريبة، وأوروبا تتعامل معها بحذر، بينما يستمر النظام في لعبته المفضلة — اللعب على الحبلين — دون اكتراث لما تتركه هذه السياسات من أثرٍ على مكانة الجزائر الحقيقية. فبعد أن كانت رمزاً للوفاء لحلفائها في زمن الاتحاد السوفييتي، تحوّلت إلى مثالٍ على الدبلوماسية الانتهازية التي لا تعرف صديقاً دائماً ولا خصماً دائماً، بل فقط مصلحة نظامٍ يبحث عن البقاء بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو خيانة من منحها يوماً سلاحه وثقته.
 
				





 
					
				