أخبار دوليةسلايدر

العلاقات المغربية الجزائريّة في ضوء قرار مجلس الأمن القاضي بالسيادة المغربيه على صحرائه: بين اليد الممدودة والحسابات المغلقة

عبد الله مشنون
كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا.

* رقعة الشطرنج المغاربية.. سؤال المصير بين إرادة الوحدة وإكراهات الانفصال
لم تعد الجغرافيا السياسية للمغرب العربي كما كانت. فبعد القرار الذي اتخذه مجلس الأمن رقم 2797 الذي اعتبر الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية حلاً وحيداً وواقعياً لنزاع الصحراء، دخلت المنطقة مرحلة إعادة تشكّلٍ عميقة في خرائط النفوذ والتحالفات. لحظةٌ سياسية تتجاوز حدود الملف الصحراوي لتلامس جوهر المشروع المغاربي ذاته: أهو أمام ولادة جديدة تنبثق من رماد الخلاف، أم أنه يرسّخ انقساماً تغذّيه حسابات مغلقة ومخيالٌ سياسيٌّ متكلّس؟
-،أولًا: التحوّل الدبلوماسي المغربي: من شرعية التاريخ إلى واقعية الجغرافيا
لم يكن الاعتراف الأممي بمغربية الصحراء طفرةً في السياق الدولي، بل حصيلة مسار دبلوماسي متأنٍّ قاده المغرب برؤية ملكية تُزاوج بين الحكمة والتبصّر. فالمقترح المغربي للحكم الذاتي، منذ طرحه سنة 2007، مثّل تحوّلاً نوعياً في مقاربة النزاعات الإقليمية، إذ نقل النقاش من منطق “تصفية الاستعمار” إلى منطق “الحكم الرشيد والاندماج المحلي”.
وقد أكّد القرار الأممي الأخير هذا التحوّل، معترفاً ضمنياً بقدرة المغرب على إدارة أقاليمه الجنوبية ضمن مشروع تنموي يجعل من الصحراء رافعةً للتكامل الإفريقي-الأوروبي.
إنّ ما حدث هو تحوّل في بنية الشرعية الدولية نفسها، حيث باتت قوة الدولة تقاس بقدرتها على إنتاج الاستقرار وتوليد التنمية لا بترديد الشعارات الإيديولوجية. وهكذا، استطاع المغرب أن يحوّل ملفاً نزاعياً إلى منصةٍ لبناء النموذج، وإقليم الصحراء إلى مختبرٍ لتجريب التنمية المندمجة في بعدها الجهوي والإنساني.
– ثانيًا: اليد الممدودة: الدبلوماسية كأخلاق سياسية
في خطابه الذي أعقب القرار الأممي، لم يتحدث الملك محمد السادس بلسان المنتصر، بل بلسان الجار الذي يرى في الاستقرار المشترك مصيراً لا مفرّ منه. دعوته الصريحة إلى فتح صفحة جديدة مع الجزائر كانت تعبيراً عن أخلاق سياسية تقوم على مبدأ القرب بدل القطيعة، والاحتضان بدل الاتهام.
هذا الخطاب، الممتد في عمق التقاليد السياسية المغربية، يُعيد تعريف مفهوم “القوة” في العلاقات الدولية. فالقوة، كما تفهمها الرباط، ليست في فرض الهيمنة أو تصفية الحسابات التاريخية، بل في القدرة على بناء الثقة وترميم الجوار.
لقد ظل المغرب، رغم جراح الانغلاق الحدودي، يرسل إشارات إيجابية تعبّر عن إيمانٍ راسخ بأن قدر المغرب والجزائر واحد، وأن التاريخ والجغرافيا لا يقبلان الطلاق السياسي مهما طال زمن الخصومة.
– ثالثًا: المأزق الجزائري: أزمة هوية قبل أن تكون أزمة سياسة
في المقابل، لا تزال الدبلوماسية الجزائرية أسيرة سرديةٍ قديمة ترى في كل انفتاح تهديداً، وفي كل مبادرة مغربية فخّاً. الردّ الإعلامي الرسمي على المبادرات المغربية، بخطابه العدائي، يعكس ما يمكن تسميته بـ “الجرح النرجسي للدولة الوطنية”، أي شعور النظام بفقدان القدرة على التحكم في رمزية الدور الإقليمي الذي كان يحتكره لعقود.
لقد كشفت التحولات الأخيرة أن الجزائر لم تعد تمسك بخيوط اللعبة الإقليمية كما في السابق، وأن خطابها الدبلوماسي يراوح بين الدفاع عن الماضي والارتياب من الحاضر. وهكذا تحوّل الموقف من الصحراء إلى مرآةٍ تكشف هشاشة البنية النفسية والسياسية للنظام أكثر مما تعبّر عن موقف مبدئي من النزاع.
– رابعًا: الهوية كمدخل لإعادة بناء الوعي المغاربي
يتجاوز الخلاف المغربي الجزائري حدود الجغرافيا والسياسة ليطال عمق الهوية. فالمسألة الصحراوية أعادت إلى الواجهة سؤال الانتماء الأمازيغي المشترك، كقاسم ثقافي وحضاري لطالما حاولت الإيديولوجيات القومية طمسه.
لقد شكّل القرار الأممي فرصةً لإحياء هذا الوعي الأمازيغي الكامن في المخيال الجمعي المغاربي، والذي يرى في الأرض والتاريخ واللغة جسوراً لا خطوطاً فاصلة.
من هنا، يمكن القول إن أي مشروع وحدوي مستقبلي في المنطقة لا يمكن أن يُبنى دون مصالحة مع الذات المتعددة، ومع الاعتراف بأن الهوية المغاربية هي نسيج من التعدد لا من التماثل.
في هذا الأفق، يقدّم المغرب نموذجاً متقدّماً باعتماده الأمازيغية لغة رسمية في دستوره، بما يعبّر عن فلسفة سياسية ترى في التنوع مصدر قوة لا مصدر تهديد.
– خامسًا: الرهانات الجيوسياسية: من اقتصاد الفوسفات إلى جغرافيا النفوذ
تتجلى التحولات المغاربية اليوم ضمن سياق جيوسياسي أوسع، تتداخل فيه رهانات الطاقة والتحالفات الدولية. فالمغرب، بموارده الفوسفاتية الهائلة ومشاريعه الاستراتيجية في تحلية المياه والطاقة المتجددة، أصبح لاعباً محورياً في الأمن الغذائي والطاقي العالمي.
أما مشروع أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب، الذي يربط 13 دولة إفريقية بأسواق أوروبا، فيكرّس تحوّل المملكة إلى ممرّ استراتيجي للطاقة والتجارة الإفريقية، في مقابل تراجع الدور الجزائري الذي لطالما ارتكز على ورقة الغاز كوسيلة للنفوذ السياسي.
في هذا التحوّل، لا تكمن أهمية المغرب في موارده فقط، بل في قدرته على تحويل الجغرافيا إلى استراتيجية، والاستقرار إلى رأس مال جيوسياسي.
– سادسًا: أخلاقيات القرب: من منطق الصراع إلى فلسفة التعايش
في ضوء هذه التحولات، تقف العلاقات المغربية الجزائرية أمام مفترق طرق حاسم: إمّا أن تستسلم لمنطق التنافر التاريخي، وإمّا أن تؤسس لأخلاق جديدة في الجوار.
ما تحتاجه المنطقة اليوم ليس اتفاقاً سياسياً عابراً، بل أخلاقيات قرب؛ أخلاق تعترف بأن الجوار قدر، وبأن الأخوّة لا تُقاس بالحدود بل بالمصير المشترك.
هذه الأخلاقيات تتطلب شجاعة سياسية وروحية، تعيد تعريف مفهوم السيادة بوصفها شراكة في التنمية لا سيطرة في المجال.
إنّ بناء اتحاد مغاربي حقيقي لن يكون ثمرة المصالح فقط، بل نتاج وعيٍ تاريخي بأنّ الوجود المغاربي مشترك، وأنّ المستقبل لا يُمنح بل يُصنع.
فكما قال الملك محمد السادس: “ما قبل 31 أكتوبر ليس هو ما بعده”. إنّه إعلانٌ بأن المغرب تجاوز منطق الانتظار نحو منطق الفعل، واضعاً يده في يد كل من يختار الحكمة طريقاً، والاتحاد مصيراً.
– الخاتمة:
المنطقة المغاربية اليوم تشبه رقعة شطرنج تتناوب عليها الإرادات والخيارات. غير أن اللعبة الحقيقية ليست بين ملكٍ ووزيرٍ أو بين قلعةٍ وحصان، بل بين من يؤمن بالوحدة كقدرٍ تاريخي، ومن يصرّ على الانفصال كقدرٍ أيديولوجي.
وبين اليد المغربية الممدودة وذهنية الحسابات المغلقة، يبقى الأمل في أن تنكسر جدران الصمت، وأن تعود الجغرافيا إلى معناها الطبيعي: فضاءً للتكامل، لا ساحةً للخصام.

زر الذهاب إلى الأعلى