الدين والحياة

خيركم خيركم لأهله

إن الخيرية مطلب جميل وجليل، والجميع ينشده ويطلبه، غير أنه قد لا يحصل عليه كل أحد، فإنه مطلب عزيز، ورفيع يحتاج إلى جهد وتحرٍّ للوصول إليه والحصول عليه، ولكن ثمة فئام من الناس وفَّقهم الله له، ودلَّهم عليه، فكان من طباعهم وخصائصهم.

إن الخيرية مع الأهل هي إحدى طرق السعادة والبشر والهناء، ومن أوسع الطرق الموصلة لزوال المشاكل، وحصول التفاهم، والحياة الطيبة، وفي هذا الجزء من النص النبوي الكريم (خيركم خيركم لأهله)، سيكون لنا جميعًا أيها الإخوة الكرام عشرون وقفة مع متطلبات ومخرجات تلك الخيرية العظيمة، لعلنا نستذكرها، ونجعلها واقعًا عمليًّا لنا في بيوتنا وهي على النحو التالي:

الوقفة الأولى:
 إن هذا الجزء من الحديث في الخيرية هو قاعدة تربوية اجتماعية، ومن مخرجاتها السعادة الأسرية والأخوية وغيرهما، والخيرية للأهل خصوصًا، وغيرهم عمومًا، وهي أحد مصادر الحصول على الخير في الدنيا والآخرة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه)؛ رواه البخاري، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسُن عمله)، وغيرهما من هذه الأحاديث التي تُعنى بالخيرية، وكم هو جميل أن يحرص المسلم على جمع أحاديث الخيرية، ويجعلها واقعًا عمليًّا له في حياته، وفي واقع أسرته، بل يمكن أن تكون أحاديث الخيرية مشروعًا أسريًّا تبرمج الأسرة نفسها عليه، في كل أسبوع حديث، طرحًا ومناقشة، وواقعًا عمليًّا محاولين جميعًا دلالة الآخرين على ذلك الخير؛ حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله)؛ رواه مسلم، فيا بشراك حينئذ!

الوقفة الثانية:
 هذه الخيرية مع الأهل وغيرهم مدخل كبير لكثير من الصفات الخيرية والقيم الاجتماعية، كما أنها مسلك واسع للأخلاق والسلوك، فما أجمل أن تنتظم مفردات تلك الخيرية في شخصك الكريم المبارك يومًا بعد يوم وشيئًا فشيئًا، حتى تكتمل فيك المحاسن، فتبلغ درجة الصائم القائم؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليبلغ بحُسن خلقه درجة الصائم القائم)، فاجعل ذلك أحد مشاريعك.

الوقفة الثالثة:
 إن قوله عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيرُكم لأهله)، لها منطوق وهو حصول الخيرية بالتعامل الأمثل، لكنها لها مفهوم وهو أن التعامل السيئ قد يوجب أن يكون الشخص من أهل الشر – لا قدر الله – نعوذ بالله من ذلك، فاحرص على منطوقها، وكن حذرًا من مفهومها.

الوقفة الرابعة:
 المخاطب بهذه الخيرية ليس هم الأزواج فقط، بل الجميع مخاطب بذلك من زوجة وزوج وابن وبنت وغيرهم، وهذا من جوامع الكلم، فماذا ستكون حال الأسر لو كان هذا الحديث واقعًا عمليًّا لهم؟ حينها سنستغني عن كثير من الجهود والمسؤوليات والشكاوى وتضييع الأوقات فيها، وتسلم الصدور وتطيب النفوس.

الوقفة الخامسة:
 من متطلبات الخيرية التغافر والتغافل والتغاضي؛ لأنك حين تدقق في جميع الأشياء – حتى في معظمها – فإنك لا ترتاح ولا تُريح، فتشقى وتُشقي، أما بالتغافل النسبي المقبول، فتدوم السعادة وتحصل الخيرية.

الوقفة السادسة:
 من متطلبات الخيرية الغيرة على المحارم؛ حيث إن من الخير الذي يسوقه راعي البيت لرعيته الحشمة والعفة والتربية عليها، ومما يتمثل فيه هذا الجانب اللباس الساتر، وخلق الحياء، وعدم تكليم النساء للرجال إلا عند الحاجة الماسة، وتثقيف أهل البيت بهذه وأمثالها بين الفينة والأخرى؛ حتى تكون أخلاقًا دارجة لهم.

الوقفة السابعة:
 من متطلبات الخيرية تعليم أهل البيت ما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم في تصحيح عباداتهم، وحل إشكالاتهم، ومن أيسر الطرق لهذا وضع درس في البيت تجتمع فيه الأسرة جميعًا، أو في بعضهم بشكل دوري، ويتم فيه طرح ذلك البرنامج، فما أعظمها من روضة تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكر الله أصحابها فيمن عنده، وكافيك من ذلك الدرس، وهذا المجلس هذه الأمور الأربعة، فيا بشراك حينئذ!

الوقفة الثامنة:
 من متطلبات الخيرية التوسعة على أهل البيت في النفقة بالمعروف، وهذا من الإنفاق المحمود، ويقول أحدهم: عندما ينزل راتبي الشهري في حسابي، فإنني أتصدق به كله أحيانًا، وبأكثره أحيانًا أخرى، فقال له صاحبه: وكيف ذلك لعلنا نحصل على مثل ما حصلت عليه من الخير، فقال: إنني احتسب كل ما أشتريه لأسرتي من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها من سائر الخدمات، أحتسبها صدقة، مستحضرًا بذلك التقرب إلى الله تعالى، فهذه سياستي مع راتبي سوى ما أدَّخره منه، فجميل جدًّا استحضار مثل هذا المعنى عند شرائنا لحاجاتنا، مجتنبين في ذلك الإسراف والتبذير.

الوقفة التاسعة:
 ومن متطلبات حصول الخيرية الألفاظ الطيبة في المعاملة، أو المحادثة والمجالسة، واللسان هو رسول القلب إلى القلوب، فتنفتح وتبتهج القلوب بما يُلقى من كلام طيب معسول، ولا سيما أنها صدقة؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة)، فالحروف هي الحروف، والكلمات هي الكلمات، ولكن يعدلها أو يميلها عقل الإنسان وقلبه، فتأمل ما تقول تفلح وتنجح بإذن الله تعالى.

الوقفة العاشرة:
 من متطلبات الخيرية السلام على الأهل عند دخول البيت، فمصالحه لا تُحصى كثرة، فمنها الحسنات المكتوبة عليه، ومنها أنه دعاء بالسلامة والرحمة والبركة، وهي متطلبات عظيمة، ومنها الضمان؛ كما في الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة كلهم ضامنٌ على الله، وذكر منهم: ورجل دخل بيته بسلام)، ومنها أن من أسباب المحبة والمودة ذلك السلام، إلى غير ذلك، فلذلك كان السلام أصلًا من أصول الخيرية.

الوقفة الحادية عشرة:
 من لوازم تلك الخيرية التنازل عن بعض الحقوق الثانوية، لكسب مصالح أخرى قد تكون أعظم منها، كالتآلف والاجتماع والتواد وغيرها، وعدم الانتصار للنفس في كل موطن، خصوصًا مع الأهل والأقارب والجيران، فإن النفس أحيانًا تقود إلى مسالك لا تحمد عقباها.

الوقفة الثانية عشرة:
 ومن لوازم الخيرية ألا يطلب من أهله وقرابته وجيرانه الكمال، وهو لم يكمل، فإن النقص من طبيعة البشر، فكما يريد من الآخرين أن يعذِروه عند خَلله ونقصه، فكذلك هو يعذرهم عند نقصهم وخللهم، وعندما لا يعترف بذلك، فإنه يُتعب نفسه، ويُتعب غيره وتنقص عنده الخيرية بقدر هذا المفقود والناقص.

الوقفة الثالثة عشرة:
 كثرة الدعاء للزوجة والأولاد ونحوهم، فهذا من الخير الذي يساق إليهم بسبب الدعاء، مع ما يحصل له هو من تأمين الملَك على دعائه وقوله: (ولك بمثل)، فيحصل بالدعاء مع سهولته أمران عظيمان، حصول الخير لهم بدعائه، وحصول الخير له هو بدعاء الملك له، فأعظم بهما من ربح كبير.

الوقفة الرابعة عشرة:
 من متطلبات الخيرية القراءة والاطلاع في معاني هذا الحديث وشروحاته، فإن القارئ والباحث يطلع على جوانب مهمة في التعامل الأسري، وقد يصحح مفاهيم خاطئة، فكم هو جميل البحث في ذلك الميدان.

الوقفة الخامسة عشرة:
 ومن لوازم الخيرية أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فهو ركن ركين في جلب الخير لهم وله، ودرء الشر عنهم عنه، فكم تصححت مسارات ومعاملات، بسبب ذلك، وهذا لا شك من عظيم الخير الذي ينشده كل مربٍّ، فلا تتكاسل وتتقاعس، فإن هؤلاء الذرية هم كسبك وتجارتك، وغرسك في الدنيا والآخرة، فعليك بتعاهدهم بالأمر والنهي.

الوقفة السادسة عشرة:
 ومن لوازم الخيرية الرِّفق في المعاملة؛ قال عليه الصلاة والسلام: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)، فالرفق سبب لكل جمال وكمال في الأقوال والأفعال.

الوقفة السابعة عشرة:
 من لوازم الخيرية عدم إظهار الخلافات الزوجية بين الأولاد، فإن هذا له آثاره المستقبلية سلبًا، وهذا يحتاج إلى عزم وحزم وعقل ورجولة ونظر في العواقب، وإن امتدادها إلى الأولاد، وأمامهم قد يزيدها هيجانا؛ مما قد يؤدي إلى الطلاق والفراق.

الوقفة الثامنة عشرة:
 ومن متطلبات الخيرية ألا يطول غياب المربي عن البيت كثيرًا، فإن الخلل يتسرب حينئذ، فدخوله وخروجه عن قرب له مخرجات تربوية على الأولاد قدوةً واقتداءً.

الوقفة التاسعة عشرة:
 ومن لوازم الخيرية تعاون أهل البيت في جميع شؤونهم، فكل منهم رِدْف للآخر في حل إشكالاته، ودعم مشاريعه، وبيان تفكيراته، فكم حصل بهذا من نتائج طيبة على الجميع.

الوقفة العشرون:
 ومن لوازم الخيرية معاشرته بالمعروف؛ قال تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وهذا المعروف هو ما عُرف في الشرع، والعطاء والعقل يُحسنه، وهذا من أعظم الأسباب لتقارب القلوب، وتجانسها واجتماعها.

إخواني وأخواتي المستمعون والمستمعات، هذه عشرون وقفة عن الخيرية مع الأهل، وغيرهم، أحلف – ولا أكون حانثًا بإذن الله تعالى – أننا لو عملنا بها لصلَحت أحوالنا، وتماسكت أسرنا، وكنا كالجسد الواحد، فهل ستكون هذه العشرون وقفة واقعًا عمليًّا لنا في بيوتنا؟ أرجو أن يكون ذلك كذلك.

وكم هو جميل نشر مثل هذا في المجالس، والحديث عنه لتوعية المجتمع ودلالته على الخير، وفَّقنا الله لكل خير، وإلى حلقة أخرى بمشيئة الله تعالى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

16 + واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى