الرأي

الجزائر: ماذا بعد الخروج الإعلامي الرسمي الأول لشنقريحة؟

زهير داودي*

ونحن نترقب أول خروج علني لسعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الجزائري، كنا نتوقع أن تكون أول خرجة إعلامية له بمثابة “خارطة طريق” للمرحلة المقبلة للجارة الجزائر. لكن يبدو أن سمعة من عوض الراحل أحمد قايد صالح، قد سبقته. كيف ذلك؟

في إطار الغموض الكبير الذي يكتنف شخصيته، اكتفى اللواء شنقريحة بالتأكيد على ما اعتبر “مؤامرة خطيرة” حيكت ضد ما أسماه ب”تحييد المؤسسات الدستورية”؛ والمقصود هنا “المؤسسة العسكرية”.

في هذا الإعلان الرسمي الذي تم خلال اجتماعه مع كوادر وزارة الدفاع والقيادة العامة للجيش يوم الإثنين 30 دجنبر 2019، لم يخف شنقريحة إلمامه التام بخيوط كل ما اتخذ من قرارات منذ انطلاق الشرارة الأولى للحراك الشعبي في 22 فبراير من السنة الماضية، في إشارة إلى أنه “رجل المرحلة”، وأنه سيتعامل بالحزم الكافي والصرامة الضرورية من أجل أجرأة الخطة التي طبخت على نار هادئة على أرض الواقع. والخطة تقتضي، حسب شنقريحة، أن يتصدى الجيش لكل من تسول له نفسه إقصاءه أو تهميشه في إدارة الشؤون الكبرى للبلاد.

ونعتقد أن هذه الخرجة الأولى لا يمكن الإعتماد عليها حاليا من أجل استقراء ما ستؤول إليه الأمور في القادم من الأيام… وما علينا إلا انتظار الخرجات المقبلة التي ستكون، من دون شك، أكثر وضوحا في لغتها ومضمونها. وعندما تكون أمام شخصية عسكرية غامضة تخرج من الظل إلى العلن، فانتظر الجديد والمفاجآت.

وفي هذا الإطار، نتوقع أن يتم توجيه “نداء” لفتح حوار غير مباشر مع مؤسسة الجيش من خلال “السلطة المدنية” الموجودة حاليا وعلى رأسها الرئيس “المنتخب” عبد المجيد تبون، والذي سَيُعْفَى مباشرة بعد التوصل إلى “صيغة تفاهم” بين الحراك الشعبي وشنقريحة، إذ لا يعقل في ظل الظروف الراهنة أن يتم فتح قنوات مباشرة مع قيادة الجيش بسبب حساسية المشهد الداخلي وتداعياته متعددة الأبعاد، عكس ما تم هندسته في السودان مثلا.

ومنذ بداية الحراك الشعبي، كان خطاب الجيش يوحي بأن القيادة العسكرية غير منحازة وأنها ليست طرفا في أي صراع، وهو ما عكسه الراحل قايد صالح على مدى عشرة أشهر من خلال الخطب السياسية التي ألقاها من داخل الثكنات العسكرية، والتي كان يؤكد فيها أن الجيش هو ضامن الأمن والإستقرار والتسيير العادي للمؤسسات الدستورية.

* القيادة الشابة للجيش الجزائري.. ورسم مستقبل البلاد؟

علينا أن لا نغفل أن من وراء سعيد شنقريحة ضباط شباب على درجة عالية من التكوين والوعي العميق بالرهانات المطروحة داخليا وخارجيا، وهم مرشحون للإنتقال من مرحلة الصف الثاني إلى مرحلة الصف الأول في القيادة. كما أنهم لا يُلْقُونَ بَالاً ل”مشروعية محاربة الإستعمار” كما كان يردد قايد صالح في خطبه الموجهة للداخل وللخارج، فالأهم بالنسبة لهم ليس الماضي بصفحاته السوداء، وإنما الإنكباب على تحديات الحاضر والتطلع إلى الإستثمار في المستقبل.

جل هؤلاء الضباط الشباب خضعوا لدورات تكوينية أكاديمية في عدة دول متقدمة، ويتطلعون للخروج بالجزائر من عنق الزجاجة دون التفريط في حق المؤسسة العسكرية ليس فقط في المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات السياسية والإقتصادية، بل أيضا أخذ المبادرة من أجل رسم مستقبل البلاد بشكل يضمن للجارة الشرقية عدم تكرار أخطاء الماضي. ومضمون هذا المستقبل ينصب على خفض التركيز الكلي على عائدات الموارد الطبيعية (البترول والغاز الطبيعي)، وذلك باعتماد سياسة إقتصادية ومالية تضمن، ولو بشكل تدريجي، القطع مع إقتصاد الريع والفساد… والتأسيس لإقتصاد حديث.

وهذا التأسيس لإقتصاد حديث سيكون للجيش ولقيادته الشابة، بدون شك، اليد الطولي في ضبطه وتحديد مساره على أرض الواقع، ولهم في ذلك مثل يحتذى: ما يقوم به المشير عبد الفتاح السيسي في مصر؛ حيث يُعْهَدُ للجيش بتنفيذ مختلف المشاريع بما فيها بيع اللحوم وتسويق الخضر والفواكه والعجائن وزيوت الطهي والسكر وقنينات غاز الطبخ وإنتاج الحليب والأجبان… إلخ.

إن التجربة “السيساوية” المصرية قد تكون ملهمة للقيادة الشابة للجيش الجزائري، وذلك تحت تبرير قطع الطريق على الذين استغلوا المناصب الحكومية ونفوذ السلطة والقرب من مراكز القرار، واستفادوا من مقدرات وخيرات البلاد، وعدم الإكتفاء ب”القوة العسكرية” والمرور إلى مرحلة بناء “القوة الإقتصادية والمالية”.

الأنظار الآن متجهة إلى معرفة الصفة الحكومية التي سيحظى بها اللواء سعيد شنقريحة، ونعتقد أن الرجل سيرقى إلى مرتبة وزير للدفاع مما سيمكنه من التحكم في كل ما له علاقة بمؤسسة الجيش التي يعرف كل دواليبها وتفاصيلها من الألف إلى الياء، وبعدها يَنْزَعُ الزي العسكري ليترشح تحت “غطاء مدني” كما فعل المشير السيسي.

قد يكون عامل السن فارقاً بين التجربتين المصرية والجزائرية، فالسيسي تولى (بعد الإنقلاب على السلطة المنتخبة) الحكم سنة 2014 وعمره 60 عاماً، وشنقريحة اليوم يبلغ من العمر 74 سنة. إلا أن التجربة قد تتكرر مع اختلاف بسيط في التفاصيل، وسيتم التهييء في هذه الفترة الحرجة لإبراز طبقة سياسية وحزبية تتماهى والمشروع العسكري/السياسي الجزائري.

* شنقريحة.. ورقة الحرب في ليبيا.. والقوى الخارجية

الحديث عن النار المشتعلة في ثوب الجزائر وما يخبئه لها القدر، لا يمكن أن يستقيم دون أن نتناول الرهانات الجهوية التي ما فتئت تأخذ أشكالاً أكثر أهمية، والحديث هنا عن الحرب المعلنة/المؤجلة في ليبيا، والتي ستستقطب إلى مستنقعها قوى خارجية لها حسابات جيو إستراتيجية معلنة، مما يفتح الباب مشرعا أمام سيناريوهات قاتمة غالباً ما سَتُعَجِّلُ بتدخل الجيش الجزائري من أجل حسم الأمور داخليا لصالحه دون التوجس أو الخوف من اتهامه بالقيام بانقلاب عسكري، حيث سيكون المبرر هو الدفاع عن الوطن واستقراره وحدوده الواسعة.

وفي هذا السياق، أعلنت القيادة العسكرية الجزائرية (يوم الخميس 26 دجنبر الماضي) عن أول تحرك رسمي بشأن الأزمة المتصاعدة في جارتها ليبيا، وذلك من خلال تعزيز إجراءات تأمين الحدود المشتركة التي تمتد على طول 982 كلم، وتحريك الآلة الدبلوماسية بهدف تدارك التأخر الكبير المسجل على مستوى متابعة تطورات الملف الليبي وقضايا المنطقة.

نحن لا نتوقع أن يغامر اللواء سعيد شنقريحة وقيادته الشابة بالتورط في أتون الحرب المتوقعة في ليبيا، ولكنه سيستغل “ورقة الحرب” من أجل الإسراع بتمرير مشروعه العسكري والسياسي والإقتصادي دون أن يلقى لوماً على ذلك. وقد سبق لمولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، أن حَذَّرَ الجزائر والدول المجاورة لليبيا من الإنغماس في هذه الحرب (إن وقعت)، وهو تحذير تأخذه القيادة العسكرية الجزائرية على محمل الجد.

عوامل أخرى ستساهم في تسهيل مأمورية شنقريحة ومن معه، ومن أهمها التغيرات الجهوية التي تشهدها عدة دول أوروبية متوسطية خاصة إسبانيا وفرنسا، وتنامي ظاهرة الشعبوية، مما يشكل خطرا محدقاً بالمنطقة ويفتح الباب على مصراعيه أمام تغير موازين القوى، وهو ما سيخدم الدول التي كانت ترزح تحت تأثير القوى الإستعمارية ممثلة على وجه التحديد في إسبانيا وفرنسا.

وهنا نفتح قوسا كبيرا، ففرنسا شبه مشلولة منذ شهور، وهو شلل غير مسبوق تعكسه الخسائر اليومية التي تقدر بملايير الأوروات منذ اندلاع احتجاجات “السترات الصفراء”، والتحاق فئات عريضة من المجتمع الفرنسي بالإحتجاجات على السياسة المقترحة لتعديل نظام التقاعد، وعدم انسجام مكونات الحكومة، وتدني شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون… وكلها عوامل سلبية تجعل فرنسا أكثر ما تكون انغماسا في شؤونها الداخلية على حساب ما يجري في المنطقة.

أما في إسبانيا، فالأزمة السياسية بلغت ذروتها بسبب عدم بروز أغلبية برلمانية منسجمة وقادرة على تسيير الشأن العام من جهة، وتنامي التيار الشعبوي والمد الإنفصالي في جهة كتالونيا من جهة أخرى، مما يجعل الأمور في شبه الجزيرة الإيبيرية تنذر بأزمة لا مثيل لها قد تُغْرِقُ البلاد في مآلات لا تحمد عقباها… هذا مع العلم أن إسبانيا نظمت ثلاثة إنتخابات تشريعية منذ 2017، من دون أن تسفر عن تصدر أي حزب أو تكتل للمشهد السياسي بما يمكن من تشكيل حكومة قوية ومنسجمة، وتكريس “الديموقراطية البرلمانية” التي كانت شعار الجارة الإيبيرية منذ اعتلاء خوان كارلوس الأول العرش.

* شمال إفريقيا.. جغرافية الخليج.. نتنياهو والتطبيع

لا شك أن 2020 ستحمل مفاجآت غير سارة بسبب الإحتكاك المتزايد المسجل، جهوياً ودولياً، بين قوى تتصارع بلا هوادة من أجل الفوز بأكبر قطعة ممكنة من كعكة المنطقة، وأن ما يحصل في كل الرقعة الجغرافية لمنطقة الخليج سيكون له وقع واضح على منطقة شمال إفريقيا، والعكس بالعكس.

إن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” بدأ يتجسد على أرض الواقع، ونستدل على ذلك بالتصريحات المغلفة بالثقة والعجرفة التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

فقد قال نتنياهو مؤخرا في تل أبيب، بصيغة تأكيدية، إن تل أبيب ستطبع بشكل كامل مع العديد من العواصم العربية، وأكد بالحرف أنه “سيكون لإسرائيل قريباً علاقات طبيعية واتفاقات سلام رسمية مع عدد من الدول العربية”.

غير أن تصريحات نتنياهو في علاقتها بالمشروع الأمريكي/الإسرائيلي “الشرق الأوسط الكبير”، تؤكد ضمنا أن المنطقة ستخضع لمقاربة سمتها هيمنة المؤسسات العسكرية ب”غلاف مدني” في عدد من الدول العربية، وذلك بعد نجاح التجربة المصرية بقيادة السيسي.

وهذه المقاربة ستساعد على توفير الأرضية الخصبة لزرع مزيد من بذور التطبيع الرسمي مع من يحتل فلسطين، ويذبح الفلسطينيين، ويوسع مساحات الإستيطان المقيت، ويمعن في تهويد القدس الشريف، ويقتل مشروع “حل الدولتين”، ويرمي قرارات الأمم المتحدة في سلة القمامة…؟؟؟

* الحراك الجزائري.. التأسيس للمرحلة المقبلة.. وفرصة “نجاح”؟

نعتقد جازمين أن العوامل السابق ذكرها سَتُعَجِّلُ بحسم سعيد شنقريحة للأمور، وتسريع عملية الشروع في التأسيس للمرحلة المقبلة في الجزائر عبر اعتماد حوار غير مباشر من خلال “الواجهة المدنية” ممثلة في عبد المجيد تبون المنبوذ شعبيا.

وقد بدا واضحا أن بعض الهيئات السياسية مستعدة للإنخراط في هذا المسار، فقد بادر عبد الرزاق مقري رئيس أكبر حزب إسلامي في البلاد، ممثلا في “حركة مجتمع السلم”، إلى التصريح في بيان رسمي بضرورة إعطاء الرئيس الجديد “فرصة نجاح”، وأعلن موافقته على المشاركة في الحوار مع السلطة الذي أُمِرَ تبون بفتحه.

لكن، في المقابل، لا يزال باب المفاجآت موارباً من خلال رد فعل الحراك الشعبي السلمي الذي يمكن أن يفاجأ الساكن المؤقت في قصر “المرادية” وشنقريحة، بعدم الإستجابة لدعوة الحوار، وفرض شروط انسحاب كل السياسيين الذي عاصروا الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، واقتراح مرحلة إنتقالية يُعْهَدُ فيها لشخصيات مستقلة بالدخول على خط تدبير المرحلة وتوفير الظروف المواتية والأجواء المناسبة لتنظيم إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة ستضرب عرض الحائط بخطة اللواء شنقريحة، هذا إن لم يلق مصير قايد صالح؟

*صحافي وباحث في العلاقات الدولية

زر الذهاب إلى الأعلى