الرأي

صـــابون تـــازة

د. بوجمعة العوفي

هل كان لتازة صابونها، ومتى عرفت المدينة تصنيع هذه المادة العجيبة؟  تلك بعض الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن كلما سمع المرء بالقول المأثور : " ما يفكك مْعاه حتّى صابون تازة  "، في نفس السياق تشير بعض الكتابات حول تاريخ تازة، إلى أن المدينة عرفتْ، بل اشتهرتْ بصناعة مادة الصابون انطلاقا من القرن الخامس عشر الميلادي و مع فترات القرون الوسطى تحديدا، إلى درجة أن مدينة تازة كانت، حسب هذه الكتابات، تقوم وقتها بتصدير مادة الصابون إلى فرنسا عبر ميناء مرسيليا، وهو الصابون الذي سيُعرَف فيما بعد في فرنسا بـ " صابون مرسيليا ".

 وبالرغم من أن جل هذه الكتابات المتوفرة لحد الساعة حول تاريخ تازة وصابونها العجيب، تظل مفتقدة إلى الوثائق والإثباتات العلمية القاطعة بوجود هذه المادة وتصنيعها بالمدينة، فإن الحضور القوي لـ "صابون تازة " في تداول المأثور الشعبي وذاكرته، اكتسى نوعا من الرمزية المطلقة واليقين في وجود هذه المادة بالمدينة في فترة من فترات وجودها التاريخي.

ولعل من أولويات الأمور، هنا أيضا، توضيح الغاية التي سُقْنا من أجلها في بداية هذا العمود مسألة " صابون تازة "، بل لماذا اخترنا أساسا أن نعنون هذا العمود أو هذه الفسحة البسيطة من الكلام بـ " صابون تازة " ؟ إذ ليس المقصود هنا التأريخ لهذه المادة التي قد تكون تازة عرفتْ تصنيعها أو إنتاجها خلال حقب معينة من تاريخها، بل الأهم في ذلك هو استثمار  هذه الإحالات الرمزية والمحمول الدلالي الخاص الذي ظلت تحمله وتشير إليه عبارة " صابون تازة " عبر الزمن وفي تداو المقول الشعبي، مما جعل صيت هذه العبارة يَعْرِف ذيوعا وانتشارا واسعا تجاوزَ حدود المدينة ليشمل آفاق المغرب كله، ومن ثَمّ، غالبا ما ارتبط، في الذاكرة الشعبية للمغرب بكامله اسم مدينة تازة بمادة الصابون، تماما مثل ارتباط اسمها بالتعبير السائر أيضا: " سيري يا دجاجتي حتى لتازة ".

إن الهدف هنا، ليس إعادة استحضار أو إشهار  رمزية وفعالية هذا الصابون في وجه الوافدين على المدينة وضيوفها، بما قد يمنح فرصة لكل المهووسين وعديمي المروءة وذوي النزعات الشوفينية والقبَلية، المتعصبين أو المنحازين بشكل أعمى وغير موضوعي تماما إلى الانتساب إلى هذه المدينة الجميلة والمُختَطَفة من قِبَل عصابات وتجّار المال والعقار والسياسة، كي يتخذوا هذه المقولة الشعبية المأثورة نفسها ذريعة لنخوة مزعومة، ويتمادوا، بالتالي،  في التباهي و في نهبهم للمدينة والإساءة إلى سمعتها بأفعالهم الشنيعة، بل الغاية هنا إعادة إحياء " ثقافة الصابون " وفعالية " صابون تازة " في معناها الإيجابي والتطهيري تحديدا: أيْ دعوة الغيورين والطيبين من أهل المدينة وسكانها وكل المغاربة في نهاية المطاف إلى إعادة تشغيل رمزية وقدرة هذه المادة العجيبة على تنظيف وإزالة ما يكون قد عَلِقَ بوجهها الجميل والبسيط من شوائب، راكمَتْها على مر الزمن وفوق جسدها الأخضر كذلك أجيال من المتنفذين والمتنفعين ببركات صناديق المال المنهوب والصفقات المشبوهة.  ندعو فقط إلى تشغيل " صابون تازة " في تازة وعلى امتداد جغرافية الوطن، إن كان المغرب يرغب بالفعل في مرحلة " الصابون " والوصول إلى أفق " نظيف "، هو الأفق الذي لا خيار للبلاد من دونه كي تعبر إلى غدها الأفضل والحقيقي.

والآن، هل تخلى أهل تازة عن صابونهم القديم واستبدلوه بشتى أنواع المساحيق الوافدة عن طريق التهريب ؟ وهل لكون صابون اليد يحتاج دائما إلى مجهود عضلي إضافي يتجلى في " الشتيف " و " التعصار " وربما إلى " فراكة  "، أم أنهم أصبحوا، بدافع " الحداثة " و " الرفاهية " والنعم المحدثة بالنسبة للكثيرين من الماسكين الآن برقابها، والذين كانوا إلى وقت قريب ينامون على زغب بطونهم و " على الحديدة " كما يقال، يفضلون تنظيف كل شيء بآلات الغسيل وفي محلات  " الديكريساج " ؟ في الوقت الذي تحتاج فيه ماكينات المدينة كذلك مثل العديد من هؤلاء الماسكين برقاب المدينة إلى نوع من " الكريساج " أي التشحيم تحديدا ( حتى لا يُساء فهم هذه الكلمة )، وذلك لكون " بولونات " العديد منهم أصبحت، من قلة " الحركة " أو كثرتها أيضا، في أمس الحاجة إلى تشحيم كي تدُور كما يجب، إضافة إلى أن العديد من هؤلاء المتنفعين والمتنفذين الجدد قد تنبه باكرا، وإبعادا لكل شبهة، إلى مسألة أن يحافظ على رشاقة جسمه مثل باقي عباد الله الضعفاء، حتى لا تفضحه فيما بعد سمنته ونِعَمُه الطارئة، ويكون بالتالي قد تجنب تكاليف عمليات شفط الشحوم في المصحات وعيادات التجميل، ومن ثم يتفرغ بكامل مواهبه وقواه العقلية لعمليات " الشفط " الأخرى المفيدة للجيوب والخالية من الكوليستيرول.

إن الصمت المطبق الذي أصبح يلف المدينة الآن، ويجعل أهلها غير مكترثين بتاتا بكل أشكال الإفساد والإنزال الإيديولوجي وطرق التوهيم والتعتيم على العديد من الأفكار والمشاريع والطاقات والإرادات الطيبة والنظيفة في جميع المجالات، ليتناقض حقا مع طبيعة أهل تازة وميلهم الفطري إلى النقد وفضح المستور ومحاسبة المتسيسين والمتنفذين والوصوليين. هذا التناقض الذي أصبح أيضا، ومن باب سخرية الأقدار أو سطوتها، السمة الواضحة للبلد بمدنه وقُراه على حد سواء.

ويكفي للتعبير عن بعض هذه السخرية الجارحة بمدينتنا السعيدة ( تازة ) أن تكون العديد من الأشياء والأسماء بها تحمل بداخلها ما يشير إلى تناقضها وخوائها الحقيقي، بل إلى ما يجعلها حتى من دون معنى أحيانا. كأن تكون : مدينة الصابون بلا صابون، ورأس الماء بلا ماء، والعديد من المسئولين بلا مسئولية، وبين الجرادي بلا جرادي، وحي المسبح بدون مسبح، وحي السعادة بدون سعادة، ودوار الجديد بدون جديد، وحي الملحة بدون ملح، ودرب كناوة بلا كناوة، وحي الشفاء بدون شفاء، وموالين البلاد بلا بلاد، والزناقي بلا فْراقي، والدروبا بلا صروبا، وهَلُمّ جرا .. والواقع الوحيد الذي تلمسه العين هو أن المدينة أصبحت مثل البلد ككل، على حد تعبير الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي في روايته العميقة " تجاعيد الأسد " بدون اسم، لأن كل الأسماء تناسبها بامتياز.  

فبقدر ما تكون تازة مدينة البسطاء والمأجورين والعاطلين والدراويش الذين اعتادوا السير بجانب " السور " وأصحاب الضمائر النزيهة الذين يخافون الله ولا يسيئون إلى عباده ولا يسرقونهم في دوائر المال والأعمال والإدارة والانتخابات والخدمات، هي كذلك مدينة: الملاينيا والملايريا، السماسريا والشطايريا، الجبايهيا والفهايميا، الشكايريا والشواكشيا، البنادريا والتعارجيا، الجوايقيا والدقايقيا، البنادقيا والتحالقيا، الزوايقيا والنمايقيا، الفرايجيا والحلايقيا، النواقسيا والنواعريا، الطرابشيا والمرايقيا، القصايبيا والدرابكيا، وهَلُمّ جرا …

وإذ أعتذرُ بحرارة في هذا المقام، نياية عن الطيبين والكُرماء والعُظماء فقط من أبناء هذه المدينة، لكل من مسّهم سوء يوما ما من هؤلاء الواردة أسماؤهم وصفاتهم في اللائحة أعلاه (العِصابة)، فإن المدينة أصبحتْ في أمس الحاجة إلى من يمسح يُتمها وغُبنها ويعيد ترميم علاقتها مع الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء. المدينة كما كل مدن الوطن في حاجة إلى منتخبين حقيقيين ومسئولين حقيقيين وناعورة حقيقية، غير ناعورة المال والمصالح والصفقات و " سير دابا نسقيك آلكمون ". ناعورة تغوص بأذرعها في الأعماق البليلة لجوف المدينة وتحمل ماءه الزلال إلى كل الحدائق والأصص والحواشي العطشى والجهات، دون الاقتصار على "عشب البلدية" و "أصدقاء البلدية" وأصحاب الحظوة الجالسين تحت قِباب "المجالس" (كل المجالس)  الآمنة واليانعة الظلال.

 كثيرا ما تدهشني أيضا كل تلك البلاغات البسيطة للغتنا العامية التي غالبا ما تشفي الغليل، والتي بواسطتها يكتُب الوجدان الجمعي للشعب المغربي العديد من نصوصه وحِكَمِه ومأثوراته الخالدة.  وهذا مقترح متواضع أو مطلع محتمل لأغنية غائبة، أوحتْ بها القريحة في ختام هذا العمود، نقدمها لشعراء تازة وزجّاليها علّهم يجدون لها تتمة ؟

( المِيمْ حَمْرة معرُوفة /  دِيمَا مْعَاهْ / والجِيمْ هَمْزة معقُوفَة / جَابْها الله  / وأنا وخُويا تْبَدلاتْ عْلِينَا لمَدِينة / سْمَاها غَايْمَة وحْزِينة / الحبّة دايْرة مَاكِينة / والقُبة ايلا بْغَا الله …)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرة + 10 =

زر الذهاب إلى الأعلى