على هامش الجدل الواسع الذى أثاره مشروع قانون “شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة” أثير الحديث هنا وهناك، عن ظهير 1935 المتعلق ب”زجر المظاهرات المخالفة للنظام العام وبردع ما يمس بالاحترام الواجب للسلطة ” والمشهور بقانون ” كل ما من شأنه”.
فعلى الرغم من اختلاف سياقات التشريعين، قد يتساءل البعض عن ما علاقة هذا ظهير “كل ما من شأنه” بمشروع قانون” تكمم الأفواه”؟، ليكون الرد أن معركة الحقوق والحريات، فضلا عن كونها تجارب وتراكمات، فإنها معركة متواصلة. الا أن الغرض، لا يتعلق بالقيام بمقارنة لا قانونية ولا فقهية، أو سياسية، ولكن للتذكير بالمسار التاريخي لظهير 1935 المسنون خلال المرحلة الاستعمارية.
لقد جاء اقرا هذا الطهير، في خضم صراع شرس بين سلطات الحماية الفرنسية والحركة الوطنية، زادت ضراوته مع تقديم “كتلة العمل الوطني” سنة 1934 لمطالب الشعب المغربي الى كل الملك الراحل محمد الخامس وسلطات الحماية والحكومة الفرنسية في باريس، بهدف تغيير أوضاع الحماية التى كانت تمارس حكما مباشرا للقضاء على كل ما تبقى من مظاهر السيادة المغربية المنصوص عليها في معاهدة الحماية.
وينص ظهير 35 على معاقبة بالسجن من ثلاثة أشهر الى سنتين” كل من يحرض بأي محل كان وبأية واسطة على المقاومة الفعالة والهادئة ( أي أظهر مجرد معارضة ولم يمتثل للأوامر ) لإجراء العمل بالقوانين أو القرارات أو الضوابط أو الأوامر الصادرة عن السلطة العمومية. ويعاقب هذا الظهير الذى كان يهدف كذلك الى الالتفاف على دينامية الحركة الوطنية لتحرير البلاد من ربقة الاستعمار بالسجن بنفس العقوبة على “كل من بحث على الاقلاق وتشويش البال أو على المظاهرات أو كان هو السبب لها وكل من قام بعمل محلولا به تعكير صفو النظام العام والسلامة والأمن”.
وفي اطار نفس المخطط الاستعماري، مارست سلطات الحماية موجة من العنف والضغط، بهدف شرعنة أساليبها القمعية وتبريرها عبر إسدال الغموض على فصول هذا الظهير، حتى يتسنى لها تلفيق التهم لعناصر الحركة الوطنية وقمع المظاهرات التي عمت العديد من مناطق البلاد، بعد اندلاع المظاهرات سنة 1930 التى كانت أولى المظاهرات ذات الطبيعة السياسية بعد فرض الحماية، وكذا أحداث سنتي 1936 و1937 التي توجت بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 وتلتها الاضرابات النقابية سنة 1952، وإبعاد المغفور له محمد الخامس الى المنفى سنة 1953.
لقد كان من الضروري بعد الحصول على الاستقلال، الاسراع بإلغاء هذا الظهير الذى ينصب على محاكمة النيات وليس الوقائع، في خرق سافر لأبسط القواعد القانونية والحقوقية، لكن عوض ذلك بإدخال تعديل شكلي عليه سنة 1969 وتكرس بذلك وجوده، لتم الاحتكام الى هذا التشريع الاستعماري في متابعة وسجن العديد من النشطاء السياسيين والصحفيين والنقابين والطلبة، على خلفية قضايا ذات طبيعة اجتماعية وسياسية.
ومنذ الستينات، تواترت المطالبة بإلغاء ظهير كل ما من شأنه، واتخاذ مبادرات متعددة، منها تقديم كل من الفريق الاتحادي، سنة 1964، والفريق الاستقلالي سنتي 1978 و1984 لمقترحات، تهدف الى إنهاء العمل بهذا التشريع الموروث عن مرحلة الاستعمار، وذلك قبل أن يصادق مجلس النواب سنة 1994 بالإجماع على مقترح قانون مشترك للفريقين الاستقلالي والاتحادى بإلغاء الظهير، وهو ما اعتبر سابقة في العمل التشريعي لمقترح للمعارضة، يحظى بموافقة كافة النواب، لكن بعد أن أعطى الراحل الحسن الثانى تعليماته للحكومة بالموافقة على المقترح المعروض على المجلس.
وقبل بداية التصويت على المقترح الذى قدمه كلا من عبد الكريم غلاب ( ) وعبد الهادى القباب عن الفريق الاستقلالى وعبد القادر باينة ومصطفى كنعان عن الفريق الاتحادى، أوضح وزير العدل مشيشي العلمي، أن الحكومة ” درست بإمعان وتعمق” مقترح القانون، ورفعت ما توصلت به الى الملك الحسن الثانى الذى أمر الحكومة بأن توافق على المقترح، وذلك أخذا بعين الاعتبار الظروف التاريخية لصدور هذا النص التشريعي والعمل على تحديث القانون والتشريع في البلاد بما يتماشى مع النهج الديمقراطي، وفي اطار احترام حقوق الانسان كما هو متعارف عليها عالميا.
وفي ظرف أسبوع واحد، بعد قرار الغاء ظهير كل من شأنه، أعلن الراحل الحسن الثانى في ثامن يوليوز في خطاب عيد الشباب، عن الافراج عن 424 معتقلا سياسيا وحقوقيا استنادا الى مقتضيات دستور 1992 الذى نص في ديباجته ولأول مرة على الالتزام بحقوق الانسان كما هو متعارف عليها عالميا.
وإذا كان الغاء ظهير كل ما من شأنه، قد تطلب ما يناهز 60 سنة لإلغائه، فإن قوة الرأي العام تمكنت – بفضل الثورة الرقمية – في أيام جد قليلة، أن توقف محاولات تمرير مشرع قانون الشبكات الذى اعتبر من لدن الفاعلين في الحقل السياسي والاعلامي، خرقا سافرا للمقتضيات الدستور والمواثيق الدولية وحرية التعبير والاتصال وحقوق الانسان.
و تحت الضغط القوي الذى مارسته القوى الحية، قررت أخيرا الحكومة، تأجيل البث في المشروع الى وقت لاحق، وذلك بدعوى مراعاة الظروف التي تجتازها البلاد بسبب انتشار فيروس كورنا، ولتوفير شروط الاستشارة مع الفعاليات المعنية والمهتمة، حول هذا المشروع الذى يندرج ضمن ” التدابير القانونية والمؤسساتية لمكافحة الأنماط المستجدة من الجريمة الإليكترونية من قبيل نشر الأخبار الزائفة، وبعض السلوكات الإجرامية الماسة، بشرف واعتبار الأشخاص أو القاصرين، خاصة في مثل هذه الظرفية التي يعرفها العالم وتعيشها بلدنا والمرتبطة بتفشى فيروس كوفيد 19″، حسب ما جاء في بلاغ لمجلس الحكومة أصدره في اعقاب مصادقته على المشروع في 19 أبريل الماضي.
وتنص المادتان 14 و15 من هذا المشروع على عقوبات بالحبس على “كل من قام عمدا بالدعوة الى مقاطعة بعض المنتوجات والبضائع والقيام بالتحريض علانية عن ذلك عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو شبكات NET المفتوح”، وعلى “كل من قام عمدا بحمل العموم أو تحريضهم على سحب الأموال من مؤسسات الائتمان أو الهيئات المعتبرة في حكمها، من بث محتوى الكترونيا يتضمن خبرا زائفا من شأنه التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتوجات والبضائع وتقديمها على أنها تشكل تهديدا أو خطرا على الصحة العامة والأمن البيئي”.