غير مصنف

محمد أركون ناقد العقل الإسلامي الجمعي

د. منتصر حمادة

لا يوجد مفكر أسال الاشتغال على أعمال كل هذا المداد في الإصدارات والندوات والمؤتمرات مثل الراحل محمد أركون، الذي اشتهر بمشروعه العلمي الذي يحمل عنوان "نقد العقل الإسلامي"، ولا ينافسه على حد علمنا سوى الراحل، محمد عابد الجابري، صاحب مشروع "نقد العقل العربي".

ومرد ذلك من وجه نظرنا، سيادة عقلية ثقافية اختزالية وإيديولوجية في الساحة الإسلامية والعربية، وغياب ثقافة الاعتراف فالأحرى الإنصاف، وبالنتيجة، كنا أمام جهة تبجل الرجل، مقابل جهة تشيطن الرجل، دون الحديث عن الذين كفروه، باسم "الوسطية" و"الاعتدال".

على أن المفارق في تفاعل التياران معاً مع أعمال الراحل، يكمن في عدة مآزق علمية، أهمها تغييب تميز أركون بتبني النقد المزدوج للعقل الإسلامي والعقل الغربي، في شقيه الديني والفلسفي، كما جاء ذلك في العديد من أعماله، منها على سبيل المثال لا الحصر، كتابه الذي يحمل عنوان: "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية"، حيث يتبنى الراحل خيار النقد الصريح ضد العقل الغربي، في شقيه المعرفي والسياسي على الخصوص، بشكل قد يتوهم معه القارئ، لو لم يكن على علم بأن النقد صادر عن أركون، أنه صادر عن قلم عربي معتز بانتماءه الديني والثقافي للرقعة الجغرافية العربية/الإسلامية، وينتقد بشكل واضح طبيعة التناول الغربي وتعاطيه مع القضايا العربية المصيرية، وتأسيسا على هذه الأرضية النقدية الأركونية، يرتحل هذا العرض الاستطلاعي.

يُحسبُ للرجل في هذا السياق بالذات، وهو الذي يهمنا أكثر، تقييمه لمُجمل الأعمال النقدية التي تتناول أوضاع العربي والمسلمين في السوق الفرنسية، معتبراً أن بعض هذه الدراسات والأبحاث والمؤلفات، تساعدنا على التحرير الفكري للعالم العربي والإسلامي، لكننا، يضيف أركون، نلاحظ للأسف وجود تواطؤ في المصالح بين دور النشر الكبرى من جهة، ومن جهة أخرى ذلك العدد الكبير من المؤلفين المتسرعين الذين يغمرون المكتبات بكتب سطحية تزيد من تشويش الأمور فيما يخص الإسلام بدلاً من توضيحها، واصفاً تلك الأعمال بأنها مجرد كتب تجارية مربحة، تدعم الصور النمطية المنتشرة عن الإسلام في الغرب بدلاً من أن تبددها المنتشرة عن الإسلام في الغرب، أي بدلاً من أن تبددها كما تفعل الكتب العلمية الجادة لكبار الاختصاصيين، لولا أن هذه الأخيرة، لا يوجد من يطلع عليها وتبقى بالتالي مجهولة من قبل الجمهور الفرنسي والغربي العريض، في حين أن الناس يتهالكون على الكتب السطحية السهلة والتجارية. (ولا حاجة للتذكير بأن ينطبق على الساحة الأمريكية والبريطانية على الخصوص).

من العبارات أو المقولات التي ارتبطت بالفقيد، نجد عبارة "السياج الدغمائي المغلق" (حسب ترجمة رفيقه في الترجمة والشرح، المفكر السوري هاشم صالح)، ونحسبُ أن هذا المصطلح ينطبق أكثر على الإيديولوجيات السائدة في الساحة، الدينية والمادية، وإن كان يُركز أركون أكثر على نقد الإيديولوجيات الدينية، كما نجد أيضاً مصطلح "السياج المغلق للروح الحديثة"، وهو السياج الذي لن يروق لصناع القرار الثقافي في الساحة الغربية عموماً، سواء في الساحة الأوروبية أو الأمريكية، حيي يرى أركون أن هذا السياج الحداثي المغلق قد فرض نفسه كمقابل جدلي لما يصفه بـ"السياج الديني المغلق لنفس الروح"، مضيفاً أنه إذا كنا لا نزال نستطيع القول بأن "الحداثة مشروع لا ينتهي أبداً" (أطروحة شهيرة للمفكر الألماني يورغن هابرماس)، فإنه يبقى صحيحاً القول إنه بعد أن قطع المسار الأوروبي هذه الحداثة على مدار ثلاثة قرون، فقد تشكل تاريخياً بالفعل "سياج حديث مغلق للروح البشرية"، من منطلق أن العقل الحديث، المفعم بانتصاراته المتمثلة باكتشافاته العلمية وتحقيقه لحقوق الإنسان والمواطن من خلال الدولة الديمقراطية، تعامل باحتقار مع موقف التراث الدين وتعاليمه الثابتة، مستنكراً عملية الاستنجاد بفيلسوف التنوير، فولتير، فقط لإنقاذهم من خطر التطرف الديني المتعصب ولإدانته من دون أي تفحص جدي لها كظاهرة كبرى تستحق الدراسة التاريخية والعلمية المتأنية، ومستنكراً أيضاً، اللجوء إلى هذا الخيار، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن المكتسبات الثقافية الإيجابية للأديان.

ولا تنقص الأمثلة التاريخية التي تزكي جرأة هذا النقد الأركوني للعقل الغربي الحداثي، منها مثلاً، أن جوزيف ستالين الذي فرض الإلحاد كدين رسمي للدولة، فإنه في الواقع، كَرّس الآثار السلبية الهائلة للجهل المؤسساتي في مواجهة الأديان.

على صعيد آخر ــ وهذه مطرقة نقدية صادمة للعقل الغربي يوجهها أركون، ولن نجد لها أثراً في قراءات أتباعه في المنطقة العربية ــ إذا كانت الحداثة قد فتحت إمكانية ظهور أنظمة أخرى للحقيقة غير النظام الديني، إلا أنها كانت تعرض نفسها وكأنها نظام الحقيقة الوحيد المطلق في هذا العالم، مادامت تعرض نفسها على أساس أنها النظام الوحيد الموثوق والمتفوق على كل أنظمة الحقيقة السابقة، أو تقدم نفسها على أساس أنها نظام الحقيقة المؤسس للقيم وللمشروعية المعرفية والسياسية والقانونية التشريعية والأخلاقية ذات الطموح الكوني. وعلى أساس هذا المزعم، سمح الغرب لنفسه بأن يرسم خارطة العالم على هواه وطبقا لمصالحه، بل سمح الغرب لنفسه برسم الخارطة الجغرافية ــ السياسية والجغرافية الاقتصادية، والجغرافية المصرفية، والجغرافية العلمية، والجغرافية الأخلاقية الإيكولوجية أو البيئية للعالم، قائلاً لنا ما معناه: "أنا أمثل الحداثة والعلم والتقدم، وبالتالي ما عليكم إلا إتباع والخضوع لي"، لولا أن المشكلة في هذا الاختزال الكوني، أن هذا الغرب، والتقييم دائما لأركون، لا يمثل الأخلاق، وأن التقدم العلمي الذي حققه لم يرافقه تقدم أخلاقي بنفس المستوى.

يرى الراحل أنه إذا كنا ندعو للقيام بنقد إجمالي لكل تراث ديني ولجميع الطوائف والمذاهب المنتسبة إليه، فإن الأمر يهم أيضاً العالم الأوروبي أو الغربي، حيث ينبغي أن تقوم معاهد البحوث العلمية الكبرى بنقد ذاتي من أجل إعادة النظر في طريقة تحديد موضوعات الدراسة ومجالاتها وكيفية نقل المعارف التي توصل إليها البحث العلمي إلى الآخرين. كما ينبغي على الجامعات الغربية ومراكز البحوث أن تعيد النظر في أنظمة التعليم وبرامجه وذلك ضمن منظور تشكيل برامج تعليم مشتركة وقابلة للتعميم كونيا على الجميع.

يُحسبُ لصاحب مشروع "الإسلاميات التطبيقية" أنه امتلك جرأة توجيه النقد مراراً إلى السياسات الغربية (الأوروبية تحديداً) في التعامل مع الأقليات الإسلامية والجاليات العربية، مؤكداً أن المهاجرين المغتربين الساكنين في الضواحي الفرنسية والأوروبية، كما أن الشباب المرشحين للهجرة إلى بلاد الغرب بحثاً عن الرزق لا يُؤخذون إطلاقاً بعين الاعتبار من قبل الغرب، إنهم يشكلون الآخر المهمل والمنبوذ المحتقر. فأين هي حقوق الإنسان إذاً، يتساءل أركون مادام هؤلاء لا يدخلون في تلك الجدلية الجذابة جداً للنزعة الإنسانية الأدبية العربية القديمة. ومعلوم أن النزعة الإنسانية ازدهرت إبان العصر الذهبي لدى العرب. باختصار إنهم أي بناء الجاليات المغتربة، لا يدخلون في دائرة تلك الجدلية الجميلة التي تحدث عنها بول ريكور في كتابه الشهير "الذات كآخر". إنهم مهملون ولا أحد يهتم بهم، وحتى إيمانويل ليفيناس وبول ريكور اللذان أعادا دمج النص اليهودي المسيحي في فلسفة الآخر لا يذكران بالمرة ذلك "الغريب الأجنبي"، أي الإسلام والمسلمين. صحيح أنهما ما عادا ينظران إليه كعدو وكما كان يحصل في القرون الوسطى، لكنهما يسدلان عليه ستاراً من الصمت ولا يتحدثان إلا عن التراث اليهودي ـ المسيحي، كما لو أن الإسلام لا يشكل جزءا لا يتجزأ من التراث الديني التوحيدي!

ومن يرغب في تصفح آخر آراء واجتهادات الفقيد، عليه بكتابه ما قبل الأخير، وعنوانه "التشكيل البشري للإسلام"، (ترجمة هاشم صالح) ويمكن أن نلخصها في نقاط ثلاث:

1 ـ يُقدم الكتاب خدمة منهجية للذين يرغبون في قراءة أعمال أركون لأول مرة، وهم مترددون في العمل الأول الذي يستحق القراءة قبل الاطلاع على باقي الأعمال، وطالما توصلنا بأسئلة في هذا الصدد، من قبيل الاستفسار عن الكتاب الأولى والأجدر بالقراءة في معرض السفر مع مشروع هذا القلم أو ذلك، وبالنسبة لمشروع أركون، لا نعتقد أن هناك دراسة تسدي هذه الخدمة العلمية أكثر من هذا العمل.

2 ـ على غرار أعمال قليلة جداً، ينتمي الكتاب إلى خيار نقدي يتبني "النقد المزدوج" ـ بتعبير الراحل عبد الكبير الخطيبي ـ ونقصد بذلك، نقد الذات الإسلامية، ونقد ذات الغير/ الآخر، وتحديداً الذات الغربية (الأمريكية والأوروبية)، وضِمن الأعمال الأخرى التي حررها أركون في هذا الصدد، نتوقف عند عنوانين بارزين: كتاب "من مانهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشر"، وكتابه الآخر: "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية"، وواضح أن خاصية "النقد المزدوج" تكاد تكون أشبه بـ"الكبريت الأحمر" في مجالنا الإسلامي العربي، بسبب غلبة تيارات تشيطن الذات الإسلامية، أو تيارات تُشيطن ذات الغير، ولو أنه للمفارقة، غالباً ما يتم تصنيف أركون، ضيف هذا العرض، ضمن الخانة الثانية، إلى درجة تكفيره وزندقته في الكواليس، بالرغم من أن الرجل حافظ للقرآن الكريم، كما نطلع على ذلك في مضامين هذا الكتاب.

3 ـ نأتي للميزة الثالثة: من يقرأ كتاب "التشكيل البشري للإسلام"، ومعه الأعمال الأخيرة للفقيد، يستحضر لا محالة مقتضيات حمل المطرقة النقدية التي لا ترحم، والتي تذكرنا بالمطرقة النقدية لنيتشه، والحديث هنا عن توجيه النقد إلى العديد من رموز الفكر الإسلامي والغربي على حد سواء، ألم يقل المفكر الفرنسي إدغار موران، في تقدمه للكتاب أن أركون "خاض المعركة على جبهتين لا جبهة واحدة: جبهة نقد العقل الإسلامي، وجبهة نقد العقل الغربي"، وأنه "على الرغم من كل توجهه النقدي الصارم إلا أنه [أركون] لا يحرم القرآن من سره الإلهي، ولكنه يعيد إليه كل إنسانيته وبشريته"، وهذا عينُ ما أشارت إليه مقدمة الباحثين الذين أجري مع المؤلف هذا الحوار المطول الذي يحمل عنوان "التشكيل البشري للإسلام"، من أن "ما كان يقوله أركون عن الإسلام المعاصر لم يكن يروق قط للسلطات القائمة في العالمين العربي والإسلامي، ولكنه لم يكن يروق أيضا لدعاة الإسلاموفوبيا في الغرب". ونقرأ لهما أيضاً، في هذا السياق، ما أشرنا إليه في الميزة الأولى، من العمل "يُمثل مقدمة حقيقية لأنثروبولوجيا الإسلام لمحمد أركون، وهي مقدمة كانت تنقصنا بشكل موجع حتى الآن"، وأن "الكتاب يقدم لنا مختلف المفاهيم الفكرية التي بلورها، كما ويكشف لنا عن مختلف الأبحاث الكبرى التي تغذى منها واستفاد. وعلاوة على إضاءات غير معروفة عن سيرته الذاتية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 + 18 =

زر الذهاب إلى الأعلى