غير مصنف

العُنـف والمُقـدَّس

الدار/ صلاح بوسريف

كان يمكن أن أحذف [و] في العنوان، ليصبح «عُنف المُقدَّس»، لكنني انتبهتُ إلى أن المقدس، في ذاته، لم يقترن بالعنف، ولم يظهر ليكون عنيفاً، أو يفرض الإيمان والطاعة بالقوة والقهر. في النصوص الدينية، يرتبط العنف بالمقدس تأويلاً، لا نصّاً، لأن هذه النصوص، في مجملها، «حمَّالة أوْجُه»، بتعبير علي بن أبي طالب، بمعنى أنها ذات معان غير مستقرة، ما جعلها تقبل التأويل، أي القراءة التي تخرج عن المعنى المُقيَّد والنهائي الحاسِم الذي يقبله الجميع، رغم أن التأويل، بدوره، له شروطه وأدواته، وله قواعده التي ينبغي التقيد بها، ومعرفتها، حتى لا يحدث الشطط في التأويل، ويصير قراءة بدون ضابط ولا رابط.

العنف، هو تَعدٍّ، هو إكراه وإجبار، هو استعمال للقوة، وفرض للأشياء بالسلاح، أو ما يوازيه. قوي مُتجَبِّر طاغٍ، مقابل ضعيف مُسالِم خاضع، لأنه، إما يرفض استعمال القوة والسلاح، وإما أنه لا يملك قوة ولا سلاح. ولعل أخطر ما واجهه الإنسان، هو عنف القلم، لا عنف السيف، لأن عنف القلم هو جُرْح باقٍ، لا يُمْحَى، وهو عنف رمزي، اليوم، أصبح الإعلام، بمختلف وسائله ووسائطه، هو مصدر هذا العنف، في الأخبار، في الصور، في الأفلام، في البلاغات والإعلانات، في الإشهار، في اللافتات، وفي لوحات الدعاية في الساحات العامة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتسم بعدوانية وشراسة خاصين، لأنها لا تخضع لأخلاقيات النشر والإخبار، كما يحدث في التلفزيون والجرائد والمواقع الإلكترونية.

المقدس، هو مجال عقائدي إيماني، وهو اعتقاد راسخ، لا يقتصر على الأشخاص، بل أصبح مُؤسَّساً، إما من خلال الدولة، أو من خلال أطر ذات طابع ديني مثل الفاتيكان، أو جمعيات وجماعات، أو غيرها من التنظيمات التي تعتبر نفسها مسؤولة عن هذا المقدس، وتعمل على تكريسه وحمايته، وعلى ترويجه بين الناس، وشرحه وتفسيره. هذه المؤسسات، بمشاربها المختلفة، تدافع عن المقدس، وتعمل على حمايته من كل ما يبدو لها تجاوزات وخروقات، أو مس بهذا المقدس، وطعن فيه. فقط، ثمة من هذه الأطراف من يعمل بـ  «الأمر بالمعروف»، دون عنف، ويستعمل وسائل الرد والتوضيح والمُحاججة، دون تجريح أو تعنُّت، وثمة من ينتقل، رأساً، إلى العنف بمعنَيَيْه، العنف بالسيف وبالقلم. وفي هذه الحالة، ليس المقدس هو العنيف، بل من سَعَوْا لتكريس المقدس وفرضه بالعنف، أي قهراً وقَسْراً.

لا يمكن الاكتفاء بالدين كفضاء للمقدس، لأن المقدس يشمل الدنيوي أيضاً. فحين نحول فكر حزب، أو جمعية، أو نظام سياسي، أو مفكر ما، إلى عقيدة تصل درجة العبودية، والاتباع دون مناقشة أو مراجعة ونقد، كما حدث في الماركسية، بكل تشعباتها، وما خرج منها تيارات وزعامات، فهذا بدوره يحول المقدس الدنيوي،  إلى حرب وقتل وعنف، وهو ما عشناه مع النازية في ألمانيا، ومع الستالينية في الاتحاد السوفياتي، والماوية في الصين، فملايين الأشخاص اعتقلوا، وهُجِّروا، ونُفُوا، وسُجِنُوا، وقُتِلوا، نتيجة اختلافهم مع فكر هؤلاء، الذي تحوَّل إلى دين وعقيدة، وإلى مقدس اتَّسَم بالعنف والقهر وتكميم الأفواه والأفكار.

عبادة الأشخاص، وخلق الزعامات، هي إحدى مقدمات المقدس الدنيوي، الذي يتحوَّل إلى عنف، وإلى دين يُضاهي الدين، في الوقت الذي كان هو يرفض الدين، كما في الفكر الماركسي، في صورته التي باتت معها الماركسية غير ما ظهرت به، بل تحوَّلت إلى اعتقاد بالتأويل، لا بالنص كما كتبه أصحابه، أو فكَّرُوا فيه.

العنف ارتبط بالمقدس، باعتبار الإيمان به، بمعنى أن الخلل لم يأت من المقدس في ذاته، بل من الذين حوَّلوا هذا المقدس إلى سلاح فاتك، وإلى وسيلة للعقاب والتجريم، وإلى حرب على من ليسوا من نفس الدين، أو من نفس الفكر. ما يعني أن المقدس لا ينطوي على عنف في ذاته، لأن العنف صناعة من يجعل المقدس عصاً وسلاحاً، يفتك بهما، مدعياً أنه يحمي عقيدته، أو يحمي فكره، وهذا ما جعل التطرف ينتشر، ويصبح آلة دمار، بين بشر وبشر، من أجل أفكار، علماً أن الدين نفسه، ترك الخيار في الاعتقاد بحسب القناعات، وفتح أفق الاختلاف والتنوع «لكم دينكم ولي دين»[س. الكافرون]. 

الجبر والقهر، لا يفضيان إلى اعتقاد، لأنهما عنف، وكل إيمان أو اعتقاد بالعنف، هو إيمان واعتقاد باطل، لأنه ليس اقتناعاً، وهو طاعة خادعة، أو هو نفاق، بالتعبير الديني نفسه، لأنك تفعل شيئاً، وتؤمن بغيره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سبعة عشر − واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى