مفارقات الواقع.. والأمل الدائم
بقلم: يونس التايب
يتأكد كل يوم، أننا نعيش في وطننا زمن المفارقات بامتياز، حيث نحيى على إيقاعات الشيء و نقيضه، على مستويات عديدة:
الخيـر والشـر؛ الاستقامة و الانحراف؛ الحـب و البغض؛ الجدية والاستهتار؛ الإقدام والتراجع؛ الجمال والقبـح؛ الشجاعة والجبن؛ المدنية و التوحش؛ الغنى الفاحش والفقر المذقع؛ حُسن التدبير وسيئه…إلخ.
كل شيء اجتمع لنا منه نقيضان يتفاعلان أمامنا بدون خجل، حتى كاد الناس لا يستطيعون التمييز الدقيق بين الأشياء، بين الصدق و بين الكذب، و بين الخلاف الموضوعي و الخلاف المبني على الحقد المجاني، بين الخبر الصحيح و بين الوشاية الكاذبة. كل شيء كاد أن يختلط في الأذهان، مما يفتح باب الظلم في إصدار الأحكام على المواقف و على الناس، و على نواياهم، و على أعمالهم بدون أن يكون لذلك سند من منطق أو عقل.
ولعل ما سرع هذه الدينامية السيئة، هو أن إرادات كثيرة تتحرك بزعم الخير و الإصلاح، لكن أصحابها لم يأتوا بالرحمة المأمولة. كما أن العديد من النماذج مصرة على نهج الإفساد، ولا يريدون لرحمة الله أن تنزل علينا، و كأن لا شيء يعتمل في قلوبهم سوى بغض الخير و الناس، أو كأن قد خيل إليهم أنهم خالدون.
قبل خمسة أشهر، كتبت عن جملة عفوية صادقة رائعة صدرت عن الطفلة "مريم أمجون"، عندما طرح عليها سؤال عن بلدها المغرب، فقالت: "بلدي قطعة من الجنة…!". كان جوابا جميلا ومزلزلا. كيف لا، و صاحبة المقولة فتاة لم تبلغ عشر سنوات، كما أنها تنتمي إلى أسرة من متوسط الطبقة الوسطى المناضلة بشرف و كرامة. و رغم ذلك، لا ترى مريم وطنها إلا أنه "قطعة من الجنة"… هكذا… دون مساومة، و دون ريع، و دون مصالح صغيرة تؤدي إلى سلوكات متملقة حقيرة.
لن أكون مخطئا إذا قلت أن غالبية أبناء الشعب المغربي أناس طيبون وبسطاء، يريدون الخير، و يتمنون أن تصلح أحوالهم بهدوء و بجدية أكبر، و هم بذلك يشبهون "مريم" في ارتباطها بوطنها بدون شروط، و حتى بدون انتظار أي شيء. لا مصلحة و لا غنيمة. هكذا هم المغاربة يحبون بلدهم بتلقائية طوباوية جميلة، و يرجون أن يبادلهم القائمون على تدبير الشأن العام، نظير حبهم لوطنهم، عدلا أكبر في التعاطي معهم و مع حقوقهم.
ومن بين تجليات هذا الارتباط بالوطن، ما نلاحظه من انخراط عدد كبير من المواطنين في أشكال اجتماعية و مبادرات تضامنية، تتم بشكل فردي و مؤسساتي، و تشمل مجالات عديدة، و مناطق مختلفة، و فئات متنوعة.
وإذا كان صحيحا أننا سمعنا، خلال شهر رمضان الحالي، جدلا واسعا بشأن أشكال إحسانية أكثر أصحابها من "التصاور" و"العياقات"، إلى درجة اختلط على الناس، الهدف من ذلك "الخير"، والمغزى منه ومعناه. إلا أنني متأكد أننا نسمع و نرى، أيضا، صورا رائعة وصادقة، لأشكال إنسانية تضامنية، يحرص أصحابها على سرية مسعاهم، و يحتسبونه لوجه الله، ويتممون أعمالهم بدون صور و لا فيديوهات، و يحرصون أن تبقى مبادراتهم متجردة عن أي "توظيف" للخير والعطاء من أجل تحقيق "مكتسبات دنيوية" أو "الانتصار للطائفة"، أو "تعزيز غلبة الأتباع في سباق احتلال المواقع".
وأنا أثير هذا الموضوع، أؤكد على ضرورة أن يقترن المجهود الشعبي الذي يبذله الميسورون تجاه مواطنيهم المحتاجين، بسياسات عمومية لمواجهة أشكال الهشاشة الاجتماعية و التهميش، سواء من خلال برامج المؤسسات ذات الاختصاص، أو عبر إعادة النظر في الاختيارات الاقتصادية و التوجهات الضريبية المعتمدة، و طبيعة الاستثمارات العمومية، حتى تنطلق ديناميكية محاصرة التفاوتات المجالية و الاجتماعية، على أسس متينة و عميقة و ناجعة.
ويقيني أن خلق أجواء سليمة، و مؤطرة بشكل جيد، تتيح المزج بين المجهود الخيري التطوعي الشعبي، و بين مجهود الدولة و الجماعات المحلية، سيحسن الاستهداف و سيعطي ثماره، بشكل يمكنه أن يساهم في تقليص أثر الفقر، و يحفظ الكرامة، و يمنع استغلال "القفة" للتباهي و الظهور، أو لتحقيق الغلبة لمشروع أو فئة أو حزب أو هيأة معينة.
وفي كل ذلك، لا نحتاح إلى "الفدلكات المسرحية في تجمعات خطابية"، و لا إلى "الوعود غير القابلة للتحقق"، إنما نحتاج إلى:
– صدق في الخطاب السياسي للفاعلين الحزبيين.
– تصورات منطقية لأفضل السبل لتحقيق التنمية العادلة و المتوازنة.
– تدبير شفاف وعادل للموارد المتوفرة.
– دعم للكفاءات البشرية و تحرير للطاقات من أجل الإبداع و تطوير الأداء.
وقبل كل ذلك و بعده، علينا أن نعي جيدا، أننا مغاربة و لن نكون غير ذلك، حتى لو حزنا جواز سفر أحمر أو أزرق أو بغيرها من الألوان. و علينا، إذن، بالضرورة أن نحب وطننا أولا، و أن نعلي شأنه، و أن نتشبت بثوابته، و أن نوقر مؤسساته، وأن نعزز البناء الديمقراطي الذي يجمع ولا يقصي أحدا. و علينا أن نحترم التعدد والاختلاف والتمايز المجتمعي الإيجابي، ما دام ذلك يتم تحت سقف الوطن الواحد ومرتكزاته، و في احترام للقانون وسطوته، و حرص على مصالح الدولة الوطنية وتحدياتها.
كما علينا أن نظل متمسكين بالأخلاق والقيم الأصلية لتامغرابيت الممتدة لقرون، و التي يملؤها الإيمان الصادق الزاهد، الذي يرجو رحمة الله للناس جميعا، والذي يعزز حب الأرض وحب الحياة، و الذي يحث على توقير الكبير، و تعزيز الرحمة والتآزر والتسامح، و يدعو إلى التماس الأعذار و الهداية لعباد الله عوض "تصنيفهم" والقسوة عليهم.
إيمان يحفز العطاء والاجتهاد والعدل، ويدفع في اتجاه رفع مقام المصلحة الوطنية المشتركة على أي حسابات سياسوية ضيقة ومستفزة.
وعلينا، إذن، أن نتأمل واقعنا، و نثني على كل صور الخير و ندافع عن القيم النبيلة فيه، حتى لو بدت لنا قليلة أو هامشية. كما لا يجب أن يهز قناعتنا بأن الخير أبقى، كل ما نراه من طغيان مظاهر الفساد في التدبير، و النفاق و غياب القيم الأصيلة في سلوكات البعض.
ولا يجب علينا أن نجزع من بعض ما نسمع من أمور تسوؤنا. هي هكذا طبيعة الحياة، كما تحتمل الخير، تحتمل الشر، أيضا. وللأسف، في بعض الأحيان، تصلنا أخبار حالات شبه مرضية يعشش في نفوس أصحابها، حقدهم لأنفسهم أولا، و لغيرهم ثانيا. ولأن التدافع سنة من سنن الأرض، يبقى التنافس أمرا لازما، لكنه، للأسف، لا يتم دائما عبر السلوك النظيف و النزيه. كما لا تتحرك الأمور دائما بالاعتماد على كفاءات حقة ليس من بينها "التملق و النفاق، و زرع بذور الشر".
لنتأمل، إذن، صور الخير في واقعنا، وأكيد سنجدها رائعة في بساطتها. كما سنلمس الصدق في نماذج حية لمواطنين مغاربة شرفاء، من كل الفئات و المستويات الاجتماعية، يتحركون بتلقائيتهم، بدون أية "إضافات" و لا "تنميقات" خارج سياق المكان والزمان.
لنتأمل كل ذلك، لعلنا نبعد عن أذهاننا شبح الإحباط لما نصادفه من أخبار و معطيات عن نماذج السوء و الفتنة. ولنركز مع أسباب الأمل في أن غدا لن يكون إلا أفضل، لوطننا و لنا. ذلك أيضا سلوك هو من طبيعة الحياة.