الفتوى في زمن التواصل الاجتماعي.. هل انتهى دور المؤسسات التقليدية؟
في السنوات الأخيرة شاعت ظاهرة تداول الفتاوى الدينية عبر موقع "آسك"، وهو موقع تواصل اجتماعي تأسس عام 2010 وشهد تجمعا لعدد كبير من الشيوخ وطلاب العلم العرب الذين مارسوا دور الفتوى وتقديم الإرشادات والتوجيهات، وشكلوا ظاهرة يمكن أن تكون منافسا لمنابر الفتوى الرسمية والتقليدية.
وفي أعقاب شهر رمضان جرى خلاف علني بين منبرين للفتاوى على موقع فيسبوك عندما نشرت صفحة "قطوف من فتاوى الآسك" وصفحة دار الإفتاء المصرية رأيين متناقضين بشأن فتوى الصلاة في جامع يوجد فيه ضريح، وبدا الخلاف مثيرا لجمهور المتابعين من مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي الذين فاجأهم قيام صفحة دار الإفتاء (رسمية) بالرد في التعليقات على منشور الصفحة الأخرى التي تختار فتاوى لشيوخ يحظون بشعبية ولكن بدون صفة رسمية.
وتبين أن الخصائص التي تميز بها موقع "آسك" فتحت الباب لظاهرة جديدة نشأت في السنوات الأخيرة وتشكل نوعا من التهديد "لاحتكار" الفتوى من قبل المؤسسات التقليدية، كالمسجد ودور الإفتاء الرسمية.
وأتاح موقع "آسك" حرية تامة في التصدر للإفتاء والإجابة عن الأسئلة، إذ لا توجد أي قيود لإنشاء صفحة على الآسك ومباشرة تلقي الأسئلة الشرعية وغيرها والإجابة عنها، كما سمح "آسك" بميزة التخفي للسائل والمستفتي، فهو ليس بحاجة لإدخال معلوماته وبياناته، وهو ما فتح المجال لطرح مختلف القضايا وأكثرها حساسية.
كما أن من خصائص الإجابات في موقع "آسك" أنه صار بإمكان السائل أو المستفتي متابعة أشخاص بعينهم يضمن أنهم سيجيبونه بشكل مباشر بأنفسهم عن أسئلته.
وإلى جانب ذلك، غلب على الكثير من صفحات الإجابات طابع الإجابة عن كل شيء حتى خارج التخصص الفقهي، كالإجابة في مسائل اجتماعية أو تربوية أو فكرية أو أدبية، بحيث ظهر الشيخ أو طالب العلم ملما في مجالات عديدة حتى لو كانت خارج تخصصه.
تيسير أم ارتجال؟
ويقول الباحث الشرعي خباب مروان الحمد -الذي يمتلك صفحة "آسك" ويمارس فيها دور الإفتاء- للجزيرة نت إن ظاهرة الفتوى عبر موقع آسك لها إيجابيات، منها سهولة الوصول إلى المتخصص وسرعة الجواب.
وبالإضافة إلى قدرة المرء على سماع وجهات نظر في مسائل شرعية يسأل عنها ممن يجيبونه باختلاف مدارسهم الفقهية وأصقاعهم، قدرة المستفتي على التعقيب على فتوى المفتي ومحاولة الوصول إليه مرة أخرى حالما يستشكل شيئا أو يريد توضيح الفتوى، أو يعقب عليه في ذلك، والمفتي كذلك بإمكانه الوصول إلى الطرف الآخر.
لكن ظاهرة الفتوى على موقع آسك تتضمن في نظر الكثيرين سلبيات، منها بحسب الحمد "إفتاء غير المتخصص والمتأهل ممن يشهد له بالرسوخ بالعلم، أجوبة بعض المفتين فيها من التندر والسخرية والإجابات الارتجالية غير المحررة ولا المعمقة"، مضيفا أن كثيرا من الناس يظنون أن المفتي قادر على الإجابة في القضايا المتعلقة بالعلوم الإنسانية، وصحيح أنه قد يكون بعضهم كذلك ولكنهم قلة قليلة.
ويضيف الحمد "أن أغلب الأسئلة تكون في قضايا فقهية تفصيلية بحتة، فلا يمر يوم بدون أسئلة، مثل: حكم تشقير الحواجب وإزالة الزائد من الشعر الناشز عن رسمة الحاجب"، مشيرا إلى بساطة الكثير من الأسئلة المطروحة.
أما عن أبرز القضايا التي توجه إليه في صفحته على موقع "آسك" فيذكر "قضايا الحكم والسياسة الشرعية، أحكام الزكاة وما يتعلق بها من مسائل معاصرة، أحكام المعاملات، خصوصا المعاملات البنكية المصرفية وأحكام الشيكات، قضايا الزواج والطلاق ومشكلاتها، قضايا الخيانة الزوجية، أحكام المفطرات المعاصرة في رمضان".
التفاعل مع فيسبوك
ربما يكون لموقع فيسبوك الدور الأكبر في انتشار فتاوى الآسك، وأعادت صفحة "قطوف من الآسك" -التي أخذت على عاتقها الانتقاء من محتوى الفتاوى والإجابات من موقع "آسك"- نشرها في الصفحة التي يتابعها أكثر من مليون ونصف متابع على فيسبوك.
وفي مقال نشره على فيسبوك، يشير الكاتب محمد عطية -الذي يمتلك صفحة "آسك" أيضا- إلى بعض القضايا الفقهية التي أثارت الجدل في فترات متلاحقة، ومنها "النمص، النقاب، الإسبال، الأخذ من اللحية، وغيرها من القضايا التي أثيرت مؤخرا، كاشفة تماما إشكالا شنيعا تعدى مجرد الفهم للمنهج ليصير خللا نفسيا في المقام الأول"، معتبرا أنها "معارك وهمية" تستنزف الجهد بلا طائل.
تطور الفتوى
ويرى الباحث المتخصص بالقانون وتاريخ الفكر الإسلامي وائل حلاق في كتابه "نشأة الفقه الإسلامي وتطوره" أن الفقه الإسلامي لم يكن أبدا آلية بيد الدولة، وأنه ظهر باعتباره مؤسسة مستقلة أنشأها رجال أتقياء وطوروها، وهم من شرعوا دراسة الفقه وبلورته باعتباره نشاطا دينيا.
ويرى حلاق أن المفتي كان بمنزلة خبير ومسؤول قانوني تجاه المجتمع الذي عاش فيه، وكان الواجب الأساسي للمفتي هو إصدار الفتاوى، وهي إجابات قانونية شرعية عن مسائل تطرح عليه، وكانت استشارة المفتي مجانية، وهو ما يعني أن النصيحة القانونية كانت متوافرة بسهولة لكل الناس، الفقراء والأغنياء.
وأخذت الفتوى منحى مختلفا في العصر الحديث، حيث صارت جزءا من المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية في الدولة، فقد ضمت الدولة مؤسسة الفتوى لتكون جزءا منها كما حدث مع منصب "شيخ الإسلام" في الدولة العثمانية، وأسست دار الإفتاء المصرية عام 1895 في ظل الاستعمار البريطاني.
ثم صرنا نرى اسم "دار الإفتاء" في معظم البلدان العربية والإسلامية، وتكون في العادة مؤسسة مرتبطة بالدولة من خلال وزارة الأوقاف أو غيرها.
كما انتشرت إلى جانب ذلك مؤسسات غير رسمية، وتحديدا مجالس الإفتاء التي تمارس الإفتاء الجماعي، مثل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تأسس عام 1997 في إيرلندا، وقد مارست هذه المجالس دورا مهما في تقديم الفتاوى والاستشارات الدينية للكثير من المسلمين حول العالم.