من مُعْضِلاتِ التَّعليم عندنا
د. صلاح بوسريف
تعيش المدرسة عندنا جملة من المآزق التي تحتاج إلى علاج شامل، لا إلى تضميد ما يظهر من بُتُور هنا وهُناك. الجسمُ العليلُ عِلَّةَ الباطن، أو حين تكون العِلَّة في كل الجسم، لا في بعضه، فهذا يعني أن الوَرَمَ يحتاج إلى الاستئصال، حتَّى لا يبقى المرض كامِناً في الجسم، يمكنه أن يعود للحياة مرة أخرى، أو قتلَ المريض وهلاكَه بالمرَّة.
عودتي إلى المدرسة، وإلى ما تُعانيه من أمراض، لا أحد يُخْفِي وُجودَها، بمن في ذلك المُخْتَصِّين والمسؤولين عن قطاع التعليم أنفسهم، كان بمناسبة ظهور نتائج الباكالوريا، وهي السنة التي فيها يُغادر التلاميذ مستويات التعليم الثانوي، إلى التعليم الجامعي، بمختلف تَخصُّصاتِه وشُعَبِه، ما يعني أن الناجحين أصبحوا مُؤَهَّلِين لمُواجَهَة الحياة الجامعية، بما تقتضيه من علوم ولُغاتٍ ومعارف، وما اكْتَسَبَه التلاميذ في مراحل التعليم السابقة على التعليم الجامعي، من خبرات وتجارب، وقدرة على الملاحظة والتحليل والنقد، والمعرفة بالمناهج العلمية، التي تُمَكِّن الطالب، في الجامعة، من وضوح الرؤية والنظر، ومن تمييز المفاهيم، ومعرفة سياقاتها التي منها جاءت، بما في ذلك ما تحتمله من مُفارَقاتٍ وتُناقُضاتٍ، في قراءة المعطيات والنصوص والظواهر.
هل هذا يحدُث في وضع مدرستنا، في سياقها الراهن؟
نتائج الباكالويا، والنقط والمُعدَّلات، هي إحدى مُؤشِّرات نجاح وانتقال من مستوى إلى آخر، وهي، لا تكفي لنعتبر المدرسة هي المسؤولة المباشرة عنها، لأنَّ عوامل كثيرة تتدخَّل في بلوغ هذه النتائج، بينها استعدادات التلاميذ للتمدرس وتلقي الدروس والإنصات والانتباه، والمشاركة بِجِدِّيَة وحيوية في الدروس، والمواظبة على الحضور، وحُسْن السيرة والسلوك، ودور الآباء في تربية الأبناء، ووضعهم في سياق المدرسة، ومتابعة مجهوداتهم بالحَفْز والتشجيع، وبتوفير الظروف اللازمة للعمل والاجتهاد، والاستعداد للامتحانات، ولعل من الظواهر التي باتت تُرافِق استعداد الأبناء للامتحان، ما يُقْبِلُون عليه من دروس خصوصية إضافية، إما في مؤسسات خاصَّة بهذه الدروس، أو معلمين وأساتذة كرَّسُوا وقتهم لهذه الدروس التي يجنون من ورائها أموالاً طائلة، خصوصاً في المواد العلمية، مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وقد مررنا جميعاً من هذا الوضع، وكُنَّا مُلْزَمِين أن لا نَتِقَ في المدرسة وحدها، لذلك كانت هذه الدروس بمثابة العكاكيز التي نضعها في طريق أبنائنا ليتوكَّأُوا عليها، حتَّى لا تزل بهم الطريق. بمعنى أنَّ هؤلاء الذين يبلغون هذه النتائج العالية، في أغلبهم، يكونون بهذا المعنى، إلا من رحم ربك، كما يُقال، أي أنَّ الآباء يكونون مُضْطَرِّين للاقتطاع من خبزهم وطعامهم، لتأهيل أبنائهم لهذه اللحظة الحاسمة، التي أصبحت فيها النقطة أو المعدل، هو كل شيء، لا المستوى، وكأننا نعمل على برمجة التلاميذ للقيام بمهام محددة، هي ما سيسمح ببلوغ الهدف، وهذا، في ذاته، هو أكبر خلل بات تعليمُنا يُعانيه اليوم، دون أن ننتبه لخطورته على العقل والفكر، والقدرة على التفكير والاجتهاد والنظر.
عدد من الذين يحصلون على معدلات عالية في الباكالوريا، يُخْفِقُون في الدخول إلى المدارس والمعاهد العليا التي يكون فيها الانتقاء صارماً، ويكون مبنياً على ذكاء التلميذ، وشخصيته، وما يتسم به من سرعة البديهة، والثقافة العامة، التي هي شرط من شروط النجاح في هذه المعاهد، والقدرة على ابتداع الحلول للمشكلات التي تقف في طريق التلميذ. وهذه أمور، لا تحضر في التكوين في مدارسنا، أو هي شبه منعدمة، لأن الجميع مشغول بتنفيذ المقررات، وبإنهائها استعداداً للامتحان، إلى الدرجة التي معها غابت الأنشطة الموازية، أو أصبحت لا تعني أحداً، قياساً بالدروس، التي هي معادل النجاح والمعدل في نهاية السنة. لم يعد النجاح في الباكالوريا هو الغاية، بل أصبح المعدل هو الغاية والهدف، وصار، بالتالي، مثل الغمامة التي تحجب التكوين والمعرفة والثقافة، وليس من فرق في هذا، بين الإنسان والآلة، أو البرمجيات التي هي أدوات للعمل، لا تتحرَّك بإرادتها، بل بما نأمرها بعمله، أو ما تحتمله هي من قدرة على العمل، وفق ما تتضمنه من معطيات، لا غير.
ما لم ننتبه إلى هذه الأمور، وإلى المعرفة والثقافة والتكوين، وإلى الأنشطة الموازية، وإلى تكوين شخصية التلميذ وتأهيله للاعتماد على ما تحصَّل عليه من معارف بذكائه واجتهاده، فإننا سنكون كمن يحشو رؤوس التلاميذ ببرامج ومعطيات، لن تفيد في أن يكون هذا التلميذ هو العالِم المُبْتَكِر المُبْدِع، القادر على حل المعضلات، واكتشاف الخلل قبل وقوعه، بقدر ما سيكون مثل الإطفائي الذي يُهَرْوِل لإطفاء النار، ويستعد لِما قد يشتعل من نار في مكان آخر، وهذا ليس هو دور من يُعْمِل عقله وخياله للوقاية من النار قبل اشتعالها.