الرأي

صلاح بوسريف يكتب عن انهيار القِيَم

د. صلاح بوسريف

أفهم جيداً أن مجتمعاتنا اليوم، باتت في مَهَبِّ الريح، أعني، في مهب التغيُّرات الكبرى التي تجري في المدرسة، في الإعلام، في بناء الأُسَر، وفي العلاقات الاجتماعية بين الناس من مختلف الطبقات والانتماءات. وهي التغيُّرات التي مسَّتْ المعرفة والفكر الفلسفي، أي الفكر الذي يُوَجِّجُ الإنسان، ويُؤثِّر في رؤيته للأشياء، وفي علاقته بالمحيط الذي يعيش فيه.

طغت الفُرْجَة والاستهلاك، وأصبحت سلطة الإعلام، بتلوُّناتِه المختلفة، هي ما يستبد بالمعلومة، ويضخُّ المعطيات بالطريقة التي يُرِيدُها، لا كما تجري في الواقع، أو كما ينبغي أن تُعْرَضَ وتُقال. فالصُّورة باتت أكثر تأثيراً، وتلعب، بشكل خاص على الأحاسيس والعواطف، وما يمكن أن تُؤَجِّجَه في نفوس الناس من رفض أو قبول، وربما من حماس، انتصاراً لهذا الطرف دون ذاك. الإنسان، هنا، هو الهدف، هو المقصود بالأثر، أو ما يمكن أن يَنْتُجَ من آثار، وهي مقصودة، وفي غالبها تكون لصالح الأيديولوجيا التي تعمل على فرض فكرها، ورأيها، وطريقتها في النظر، وما تعمل على نشره من مفاهيم، سواء باختلاق مفاهيم جديدة تُطابِق هذا الفكر وتعمل على تعميمه، باعتباره الحقيقة الواحدة الممكنة، أو بإعادة شَحْن المفاهيم القائمة بمعاني أخرى، قد تكون مُضَلِّلَة، وتعمل على قلب الحقائق انتصاراً لفكرها طبعاً. ولعل المثال الذي يمكن الاكتفاء به هنا، هو مفهوم «المُقاومة» الذي صار في وضع الفلسطنيين خاصَّة «إرهاباً»، كما نجده في وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية، لأنهما وجهان لنفس العُمْلَة.

قلب المفاهيم وتشويشها، هو بين ما أدَّى إلى قلب فكر الإنسان، لأنَّ في قلب المفهوم، قلب للفكر، وقلب للمنهج، وللطريقة التي نقرأ بها الأشياء، ونتقحَّصُها.

في مجتمعنا، وهو صار اليوم، مثل غيره من المجتمعات، مفتوحاً على الكون، على الرِّياح التي تأتي من كل الجهات، ولا أحد يتحكم في هبوبها، ولا في قدر ما تكون عليه من جرعات، الدولةُ، تجاوزَها هذا الإعلام الكوني، كما تجاوزَ الأسرة، والمدرسة، وتجاوز مُسْتَعْمِليه أنفسهم، لأنَّ الجميع يعيشون اليوم تحت صدمة التقنية ودهشتها، وتحت تأثيرها وخَدَرِها، ما جعل الفكر يصير في مَهَبِّ هذا التشوُّش الكوني، الذي معه باتت الخصوصيات المحلية تعرف ارتجاجات وانقلابات، وفق ما يمكن أن نلمسه في مظاهر اجتماعية، مثل اللباس، وطريقة الحلاقة، وطريقة استعراض الجسد، واللغة التي يتكلَّم بها عموم الناس، أعني حِدَّة اللسان وتلوثه بعباراتٍ وجمل وكلمات، اعْتَقدَ الجميع أنها هي لغة التخاطُب، واللغة التي تليق بزمننا. الإعلام، عبر برامجه، ومسلسلاته، والأفلام السينمائية التي تُعْرَض في القاعات، انْساقَ في نفس الطريق، دون أن يُدْرِكَ هؤلاء، أن الإعلام، في طبيعته، لا يخضع للشارع، بل هو من يُخْضِع الشارع لاستراتيجيته، التي ضمنها التربية، والتعليم، والتثقيف، لا التبعية العمياء، لِما يَفِدُ علينا من هذه الشاشات الكونية، ذات الفكر المُخالِف لفكرنا، وذات السياق الذي ليس هو سياق ثقافتنا، ولا سياق تربيتنا، ولا سياق الإخفاقات التي ما تزال تأكلنا، وتضغط علينا، ثقافياً، وسياسياً، واجتماعياً.

من هنا يبدأ انهيار القِيَم، ويبدأ المجتمع في الانقلاب على نفسه، على تاريخه، وثقافته، ولغته، وعلى مختلف المظاهر التي كانت بين ما مَيَّزَه عن غيره، باعتبارها توقيعه الشخصي الخاص به، أو ما يجعله يكون إضافة إلى هذا البُعد الكوني، وصوتاً من أصواته، لا صَدًى لأصواته البعيدة النائية، بكل تناقضاتها، وما فيها من تَشقُّقات وتصدُّعات، لا علاقة لها بما نعيش ونحيا فيه، إلا ظاهراً.

انهيار القِيَم، معناه انهيار الإنسان، وانهيار المجتمع، ليصير مجتمعاً لا يُشْبِه نفسَه، كما لا يشبه غيره، لأنه مجتمع مُبَلْبَل، مُشَوَّش، مُرْبَك، مُضْطَرِب، غارق في مياه ضَحْلَةٍ، في ما يظن أنَّه يسبح في مياه عميقة صافية، هي مرآة وجهه، وهذا هو العطب الذي يشُلُّ المجتمع ويُعْطِبُه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

18 − سبعة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى