الرأي

صلاح بوسريف يكتب عن: جامعــة بلا عقــل!؟

د. صلاح بوسريف

الجامعة، في ما مضى، كانت مكاناً للعلم والمعرفة، ومكاناً لطرح الأسئلة والقضايا الكبرى التي كانت تواكب ما يجري في الكون من مُتغيِّراتٍ، بل كانت ساحة «أغورا» للفكر السياسي، والنقاش الأيديولوجي الذي كان يجري بين مختلف مكونات هذا الفكر، بمختلف انتماءاته وتوجُّهاته، كما كانت مكاناً للمعرفة بالآداب العالمية، وبأحدث الإصدارات، في السياسة كما في الاقتصاد والعلوم الإنسانية، وكان الطلبة والأساتذة، معاً، يدخلون هذه النقاشات والصراعات، مُقْتَنِعِين أن دور الجامعة هو التنوير، وهو تكريس فكر التعدُّد والتنوع والاختلاف، رغم أنَّ ثمة في الجامعة من كان لا يؤمن إلا بالفكر الواحد، ولا يرى في غيره ما يُناقِضُه، أو يسير في غير ما يسير فيه هو من طريق. وحتَّى ما كان يجري من مُشاحنات، كان مبنياً على هذا الاختلاف في الفكر والنظر، وفي القَناعاتِ، وكان «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، نقطة الضوء التي أتاحت للطلبة تعلُّم السياسة والمعرفة بها، ووعي ما يجري في الواقع، من خلال ما كان يدور من جدال ونقاش وخصام، وهذا الوعي، هو الذي أتاح للطلبة أن يُؤسِّسُوا لمعارفهم التي ذهبوا إليها، بوعي سياقاتها الفكرية والأيديولوجية، ما جعل الجامعة، تكون مكاناً للدرس، ومكاناً للاكتشاف والمعرفة بالواقع، مهما كانت طبيعة المنظورات التي بها يرى هذا الواقع.

 

هذه هي الجامعة، هي هذا الغليان، وهذا الاحتدام، وهذا التنافُس في الانتصار لفكرة ضد أخرى، ولمعرفة في مقابل غيرها، ولمنهج ضد منهج، أو لتيار واتجاه ضد آخر، وكان الطالب يعرف، على الأقل، طبيعة التربة التي يقف عليها، ويتعلَّم وهو يستمع، ويُجادل، ويناقش، ويقرأ، ويبحث، ويسأل. فما كان يقضيه الطلبة من سنوات الدرس في الجامعة، كان بمثابة كنز عظيم، لأنهم في هذا الفضاء الرحيب، كانوا يكتشفون أنفسهم ويعرفونها، وكانوا يُغادِرون الجامعة، وهم مُسلَّحون بخبرات وتجارب كثيرة، ويعرفون من هم، قبل أن يعرفوا الآخرين، وتكون معرفتهم، معرفة بما قرأوه من كتب ودراسات ومراجع، وما تعرَّفوا عليه من مفاهيم، وأفكار، وما دار في رؤوسهم من أسئلة ومن قلق، وليس فقط، الاكتفاء بالدروس التي كانت غير ذات فائدة، قياساً بما تُتِيحه الكتب والمراجع، وما يُتِيحُه النقاش في مختلف القضايا التي كانت مثار خلافات ونزاعات بين الطلبة والطلبة من جهة، وبين الطلبة والأساتذة من جهة ثانية.

 

الجامعة اليوم، بلا عقل، بلا فكر، بلا طلبة، وبلا أساتذة، بهذا المعنى الذي يجعل العقل هو السؤال، وهو القلق، وهو التقصي والبحث، وهو الإشكالات التي تُثِير النقاش، وتخلق السؤال تلو السؤال، فالطالب تراجَع عن المعرفة مقابل النجاح، بالمعنى السكولائي لا بالمعنى المعرفي، والأستاذ بات يُؤَمِّن الدرس فقط، دون أن يكون هذا الدرس أفقاً للعلم والمعرفة، بل نوعاً من الكولاج والتلفيق والسطو على معارف وأفكار الآخرين، دون الإحالة على أصحابها، وحتى حين يُثار النقاش، في هذا الدرس، ويجري فيه الاعتراض، إذا ما حدث، على ما يقوله بعض هؤلاء الأساتذة، فهم لا يقبلون به، أو لا يُتِيحُونه، بالأحرى، لأنهم يتوهَّمون أنهم هم مصدر المعرفة، وغيرهم ممن يقابلهم من الطلبة، هم مُتَعلِّمون، عليهم أن يكتفوا بالإنصات وتدوين ما يُقال. والبحوث التي تُقدَّم، في مختلف المراحل الإشهادية، لم تَعُد مُقْنِعَةً، ولا هي تتوفر على شروط البحث العلمي، والشَّاذّ منها لا يُقاس عليه، كما يُقال، لأنه يكون عملاً وجُهْداً فردياً، يعود، في أساسه إلى الطالب الباحث، وإلى ذكائه، لا غير.

 

نحن إذن، أمام عقل اخْتَلَّ، فقد توازنه، بل فقد عقله، والجامعة، بالتالي، صارت فضاء لإنتاج فكر الثبات والاجترار، ومن يسعون فيها لتكريس الفكر والنظر، أو العقل، كخيار، قليلون، ولا يستطيعون فعل شيء أمام الرداءة التي اسْتَشْرَتْ في جسم الجامعة، جسم أصابها المرض، تداعت باقي أعضاؤه، واحداً تلو الآخر، وأصابته الحمى والسهر.

 

لم تعد الأطاريح، إشكالات وأسئلة يطرحها الطالب، ولا قضايا فيها جِدَّة وطرافة، أو مثار خلافات، الأطاريح هي موضوعات، لا تليق بهذا المستوى من البحث، ولا تصلح لتكون موضوعاً للبحث، وصار الأساتذة يفرضون موضوعات بذاتها، ويمنعون موضوعات بذاتها، بل يرفضون البحث في مفكر أو شاعر، أو روائي أو ناقد ما، لا لشيء، إلا لأنه لا يُوافق هواهُم، بل باتوا يقترحون أنفسهم موضوعات للبحث، وصار الأستاذ هو موضوع البحث، وهو من يشرف عليه ومن يناقشه ومن ينشره، وهذا لعمري هو الخطب الجلل كما يقول الفقهاء، الذي أصاب الحق في البحث والسؤال، في مقتل، وجرَّ الجامعة إلى ما هي فيه من وهْدَاتٍ ظلمة، لا أعرف متي ستخرج منها، لتتعافى، وتصير فضاء للنور، ولوضع العقل في سياق السؤال، ولا شيء غير السؤال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر + 9 =

زر الذهاب إلى الأعلى