صلاح بوسريف يكتب عن: الفضاء العام
د. صلاح بوسريف
ليست عندنا ثقافة الفضاء العام، أو، بالأحرى، لم نَتَربَّ على مفهوم ومعنى الفضاء العام. أعتبر، دائماً، أنّ المدرسة التي كانت في سياق تاريخي ما، تلعب دور المُرَبِّي الذي يعمل على إعداد المواطنين للانخراط في المجتمع، وفهم طبيعة وجودهم فيه، باعتبارهم بشراً تجمعهم علائق سوسيو ثقافية، هي ما يُكَوِّنُونَ من خلاله معنى هذا الاجتماع، تخلَّتْ عن دورها هذا، وتفرَّغَتْ، فقط، للدروس والامتحانات، لِنِسَبِ النجاح والرُّسوبِ، دون أن تنتبه إلى وظيفتها التربوية التي تخلَّتْ عنها، أو خرجت من يدها، ليبقى التعليم ناقصاً، أو التعليم بلا تربية، وهذا ما كان وَبَالاً على التعليم نفسه، لأنَّ المُدَرِّسَ في مراكز التكوين، يتلقَّى دروساً في التربية وعلم النفس، وحين يدخل القسم، يجد نفسه مُكْتَفِياً بالدرس، خالياً من التربية، أو لا تصلح دروسها لشيء.
المُواطَنَة، ليست وحياً ينزل علينا من السماء، فهي تربية وسلوك، نتلقاهما في المدرسة، كما في الإعلام، ونلمسهما في الشارع، في العلاقة بين الناس، في الطريقة التي يتعاملون بها مع بعضهم، وفي الشغل والعمل، وفي ما علينا من واجبات، علينا أن نقوم بها، دون حاجة لمن يَحُثُّنا عليها، سوى ما نتحلَّى به من مسؤولية، ويقظة الضمير، والرغبة في خدمة الآخرين ومُساندتهم. وهي نفسها التشارُك، والتقاسُم، والتآزُر، والبناء، والعمل المشترك. ففي معنى المواطنة، تذوب المسافة بين الناس، ويَسْهُل الاجتماع، كما يسهل التعاون، ويكون كل واحد منا على استعداد لخدمة الآخرين، ولحل بعض ما يمكن أن يواجههم من مشكلات، كيفما كانت طبيعتها.
والفضاء العام، هو أحد تعبيرات المواطنة، لأنه المكان الذي فيه نلتقي، نتقاطع، ونتشارك الشمس والظل والهواء، كما قد يكون فضاء للتعارف، ولتقاسم الحديث، أو لربط أواصر الصداقة والتعارف والجوار.
حين نعتبر الفضاء العام، فضاء للجميع، لا لأحد بعينه، آنذاك، نكون شرعنا في وعي معنى المواطنة، أو أهم ما يجعل المواطنة، وَعْياً بالتشارُك والتقاسُم، وبإدراك المسافة بين ما لنا وما لغيرنا. لكن، هذا الوعي، عندنا، غير موجود، ولم يدخل ثقافتنا وتربيتنا، ولا أحد أدرك ما يمكن أن يكون عليه اجتماعنا، حين نكون غير واعين بهذه المسافة، وبهذه الثقافة التي لم نتشرَّبْها، أو لم تدخل رؤوسنا وعقولنا.
فالفضاء العام، هو الشارع، والرصيف، والحديقة، وهو كل مكان نلتقى فيه باعتباره ساحة لنا جميعاً، وليست ملكاً خاصّاً، مُغْلَقاً، لا يمكن اختراقه، لأنه يخص شخصاً، أو جهة ما، مثل البيت، أو الحقل، أوالإقامات التي تكون مُسَوَّرَةً، ولها وضعها القانوني الذي لا يسمح لأي كان أن يدخلها، غير المُقِيمِين فيها، أو من لهم صلة بالمُقِيمِين.
عندنا، الأرصفة مُحْتلَّة، والشوارع تعُمُّ فيها الفوضى، وليس القانون ما يحكمها، بدليل ما نراه في حركات المرور، لا بالنسبة للراجلين، ولا بالنسبة للراكبين، الأمر سواء، لأن الراجل، هو الراكب نفسه، يفكر بنفس المنطق، ويرى الأشياء بنفس العين ونفس الفكر. المدن الكبرى، باتت شوارعها وأزقتها مُحْتَلَّةً بباعة الخضر، وباعة الألبسة، وكل ما يجري في السوق من سلع وبضائع. وليس هؤلاء من يحتلون الفضاءات العامة، ويستفردون بها، بل حتَّى السُّكَّان، فهم يتجاوزون حدود بيوتهم وما يملكونه من مساحات، ويعتبرون كل ما يقابل البيت، أو ما يجاوره ملكا لهم، ولا يجوز لغيرهم أن يستفيد منه، خصوصاً ما يتعلق بِرَكْنِ السيارات، وكأن الرصيف الموازي للبيت، أو المقابل له، هو جزء من البيت، أو ملكية خاصة مسجل باسم مالك البيت ومن معه من أفراد عائلته. نفس الأمر يمكن أن نقوله عن البقالين، وأصحاب الدكاكين والمقاهي، فهم يَسْتَوْلُونَ على الأرصفة، وعلى جزء من الشارع أو الزقاق، وكأن المدينة أو البلاد لا قانون فيها يُجرِّم مثل هذا السلوك ويُعاقِب عليه، أو كأن السلطة المعنية بحفظ الفضاء العام، لا تعرف ما يعنيه هذا الفضاء، والدور الذي يلعبه في تثبيت معنى المدينة، ومعنى المواطنة، والاجتماع، ما يجعل المجتمع، بكامله يختل، وتختل العلائق الاجتماعية والثقافية بين الناس، ونكون، شئنا أم أبينا، أمام مجتمع غابة، لا مجتمع مدينة وعمران، بل ولا مجتمع إنسان، بل مجتمع هيمنة واحتلال، ومجتمع فضاءات تتهاوى، أمام تهاوي القانون وتراخيه، في ما لا ينبغي أن يتراخَى فيه، لأن هذا له تأثير على معنى أن نكون دولة حق وقانون، لأن الحق يضيع هنا، كما أن القانون يصير أعمى، لا يرى ما يفصل الظلمة عن النور.