صلاح بوسريف يكتب: فِي غَفْلَةٍ مِنَّا…
د. صلاح بوسريف
كثير من الأمور تَجْرِي حولنا، ننخرط فيها كمن يَجْرِفُه التِّيار، نصير جزءاً منه، تابعين، لا إرادة لنا، يَحْكُمُنا قَدَرُ الرِّيح التي جَرَفَتْنا.
لسنا مجتمع علم ولا مجتمع صناعة وتقنية. نستهلك التقنية دون وَعْيٍ بأهوالها، ولا بما تَفْعَلُهُ فِينا من انقلابات، في الفكر وفي الوجدان. مياه كثيرة تجري من تحتنا، ونحن نحيا في غيبوبة الصَّدْمَةِ، لا نعرف أنَّنَا أُخِذْنا في غَفْلَة مِنَّا، إلى عالم ننخرط فيه سَلْباً، لأننا اكْتَفَيْنا بالفُرْجَةِ والاستهلاك، بل أصبحنا سُوقاً تُعْرَضُ فيه السِّلَع والبضائع، ونَحْن أداة في السُّوقِ لا غير.
لم نَعُد نقرأ، مدارسُنا المعرفةُ فيها امتحان، وعَمَل ووظيفة، وليست أُفُقاً للبحث والتَّقَصِّي والابتكار، واكتساب الخِبْرات والتَّجارب، واقتراح المَشاريع والأفكار. الإنسان الآلةُ. هذا ما تُفْضِي إليه المدرسة، لأنَّها أُفْرِغَتْ من المعرفة والسُّؤال. فهي يقين وجواب. شَحْنٌ ومَلْءٌ، وقائمة مُعْطَيَات تُؤدِّي إلى المطلوب، دون إعمال الفكر والنَّظَر، ما يُفْرِغُ الإنسانَ من ذكائه، ومن فكره النقدي المُتَشَكِّك والمُتَفَحِّص.
المكتبات، عندنا، تُفْلِس، والهواتف المحمولة والألواح الإلكترونية والحواسيب، باتت هي كل ما يشغل الإنسانَ ويملأ وقتَه، في البيت، في الحافلة، في القطار، في المقهى، في الشارع، في الشاطيء. من يحمل كتاباً ويقرأ، يبدو لهؤلاء كائناً جاء من كوكب غير الأرض، أو هو ينتمي إلى زمن انتهى وتلاشى، في هذا الوجود الافتراضي.
اللُّغَةُ التي نتخاطبُ بها تغيَّرَتْ، الإدارة تغيَّرَتْ، الإعلام تغيَّر، وصرنا مثل طروادة التي رغم الحصار الطويل الذي عانتْه، فهي قاومتْ وظلَّت منيعةً على اليونانيين وحلفائهم، ولم تُخْتَرَق وتُسْتباح، إلا بالحيلة والدَّهاء، لا بالحرب والقتال. فـ «حصان طروادة»، كان السُّمّ في العسل، وهو لحظة الاختراق الحاسِمَة في إنهاء وجود مدينة بتاريخها وحضارتها وقِيَمِها.
هذا ما يبدو لي نعيشُه في ثقافتنا، في لُغَتِنا، في قِيَمِنا، في فكرنا وخَيَالِنَا، ليس لأننا اخْتَرْنا التَّغْيير، بل لأنَّ التغيير، بهذا المعنى الطروادي، هو قَدَر أُجْبِرْنا على الانجرار إليه، لأننا نعاني عجزاً شاملاً في طرح أنفسنا كرقم عَصِيّ في مُعادَلة الكون الجديد، لأننا لسنا أمة علم وتقنية، لا يَدَ لنا في ما يجري، نتلقَّى ولا نُنْتِج، رغم ذلك نُكابِر وندَّعِي أن الخلل في عجزنا عن بلوغ مجتمع العلم والتقنية، هو اللغة، ونقصد العربية التي نعمل جاهدين على الإلقاء بها خارج المدرسة، أو تحويلها إلى عُمْلَة لا تقبل الصرف، ولا تصلُح للتداول في أسواق العملة الوطنية والدولية.
إننا نُشْبِهُ ذلك الشخص الذي لا يُجِيدُ السباحة، ويُلْقِي بنفسه في نهر جارِف، يترك التيار يأخذه يشاء التيار، لا حيث يشاء هو، دون أن يحسب ما قد يقف في طريقه من عوائق قد تكون سبباً في انتحاره، بل في اندحاره.