أخبار الدارسلايدر

الإعلام العمومي المغربي بين إرتباك التحول وإمتحان المصداقية

الإعلام العمومي المغربي بين إرتباك التحول وإمتحان المصداقية

 

ما يعيشه الإعلام العمومي المغربي اليوم ليس نهضة واعية بقدر ما هو إستجابة إضطرارية لإيقاع وعي شعبي متصاعد فرضه شباب جيل Z عبر وسائط التواصل الاجتماعي. فبعد أن كانت القنوات العمومية تدور في فلك التوجيه الرسمي والخطاب المعلب، وجدت نفسها فجأة أمام جمهور جديد لا يؤمن بالوصاية الإعلامية، ولا يكتفي بالمشاهدة الصامتة، بل يمارس نقده في فضاءات رقمية مفتوحة، تقاس فيها المصداقية بعدد المتفاعلين لا بعدد البلاغات الرسمية.

لقد شكلت إحتجاجات جيل Z نقطة تحول فارقة في العلاقة بين الإعلام العمومي والمجتمع. إذ أخرجت هذا الإعلام من سباته الطويل، وأجبرته على مراجعة خطه التحريري بعدما تبيّن له أن الشارع لم يعد يتابع برامجه، وأن الشباب لم يعد يجد نفسه في لغته ولا في رموزه ولا في أسلوبه المتقادم. فكان لا بد من التكيف مع المزاج الشعبي الجديد، من خلال إعادة بث برامج حوارية وإجتماعية أكثر جرأة، تستدعي ضيوفا من خارج دائرة “المألوف”، وتفتح نقاشات حول قضايا كان ينظر إليها إلى وقت قريب كـ«محظورات إعلامية».
غير أن هذا التحول، وإن بدا ظاهريا خطوة نحو الإنفتاح، فإنه لا يزال أسير حسابات ظرفية أكثر مما هو نابع من قناعة مؤسساتية بالإصلاح الإعلامي الحقيقي. فبعض البرامج التي عادت إلى الواجهة تحاول تليين الخطاب لا تغييره، وتلامس القضايا بسطحية لا تقنع جيلا تمرس على ثقافة التمحيص والبحث والتفكيك في فضاء رقمي لا يعرف سقفا محددا للنقاش.

إن الأزمة أعمق من مجرد تغييرات شكلية في البرمجة أو من تقديم وجوه جديدة تتحدث بلهجة “شبابية”. فالمطلوب اليوم هو إعادة تعريف وظيفة الإعلام العمومي ذاته، هل هو منبر يعكس نبض المجتمع بمختلف أطيافه، أم مجرد واجهة ناعمة لتبرير السياسات العمومية وتلميع صورة المؤسسات؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو ما سيحدد مستقبل الإعلام الوطني في زمن الذكاء الاصطناعي والتواصل اللحظي.
فما يجري الآن لا يمكن وصفه إلا بكونه مرحلة من مراحل “الارتباك الإيجابي”، حيث تختبر فيها قدرة الإعلام الرسمي على التجدد في مواجهة منافسة شرسة من المنصات الرقمية، فإن إستطاع أن يحول هذا الإرتباك إلى وعي مؤسساتي وإلى مشروع تحريري قائم على المهنية والجرأة والشفافية، فحينها فقط يمكن الحديث عن صحوة إعلامية حقيقية تقودها القنوات العمومية، لا فقط لتطبع مع الحراك الشبابي ، بل لتصغي إليه وتعبر عنه.أما إن ظل الأمر مجرد إستجابة ظرفية لموجة عابرة، فإن الإعلام العمومي سيجد نفسه خارج دائرة التأثير، وسيواصل الشباب صناعة رأيهم العام بأنفسهم، في فضاءات لا مكان فيها لمن يتأخر عن إيقاع العصر السيبراني.

خاتمة، إن المستقبل الإعلامي للمغرب لن يبنى بالترقيع ولا بالمجاملات الظرفية، بل بتحرير حقيقي للقطاع السمعي البصري يفتح المجال أمام التعددية والتنافسية المهنية، ويمنح الإعلاميين حرية الإبداع والمبادرة في إطار من المسؤولية الأخلاقية والوطنية. فوجود قنوات تلفزية خاصة مستقلة ومؤطرة بقانون واضح للإتصال السمعي البصري، من شأنه أن يخلق بيئة صحية للإعلام الوطني، تنهي زمن الصوت الواحد وتؤسس لمرحلة جديدة عنوانها التوازن بين حرية التعبير والمصلحة العامة. حينها فقط يمكن للإعلام العمومي أن يستعيد ثقة المجتمع، لا بإعتباره ناطقا باسم المؤسسات، بل شريكا في بناء الوعي الجماعي وصياغة الرأي العام على أسس المصداقية والجرأة والإحترام المتبادل بين الدولة والمواطن.

د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي

زر الذهاب إلى الأعلى