
بقلم لي تشانغلين – السفير الصيني السابق لدى المغرب
بعد أشهر قليلة من عودتي من المغرب، وخلال لقاءاتي المتكررة مع العائلة والأصدقاء، كان هناك موضوع واحد يعود باستمرار: هذا البلد الإفريقي الشمالي الساحر الذي تعلّقت به كثيرًا. وفي كل حديث، لا أستطيع إلا أن أوصي بزيارة المغرب كوجهة ثقافية وسياحية مميزة، لما تركه في نفسي من أثر بفضل جمال طبيعته، وعمق تاريخه، ودفء ضيافته.
وعندما يسألني أحدهم عن الطبق الذي يمثّل المغرب أفضل تمثيل، تكون إجابتي فورية: الكسكس. فهو ليس مجرد طبق، بل ذاكرة جماعية، وهوية ثقافية، ودفء أسري. وفي المغرب، يُنظر إليه باعتباره الطبق الوطني بامتياز.
يعود أصل كلمة “كسكس” إلى العربية، ويرتبط تاريخ هذا الطبق بالمجتمعات الأمازيغية في القرن السابع. وقد كان في بداياته وجبة بسيطة وسهلة التحضير للرحّل. ومع مرور الزمن، تأثر بمطبخ الأندلس والعثمانيين والمطبخ المتوسطي، حتى أصبح رمزًا ذائع الصيت في مطابخ شمال إفريقيا.
وقد نال مكانته الثقافية اعترافًا عالميًا، حين تم إدراج الكسكس وتقنيات تحضيره في ديسمبر 2020 ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، تقديرًا لدوره الاجتماعي العريق في المنطقة المغاربية.
كانت أول مرة أتذوق فيها الكسكس خلال سنوات دراستي في جامعة لييج ببلجيكا، حين دعاني طلاب مغاربة للاحتفال بإحدى المناسبات التقليدية. وقدموا لي طبقًا ضخمًا بالكاد استطعت إنهاء جزء منه، قبل أن يخبروني – مازحين – أن من لا يُنهِي طبق الكسكس في المغرب، يُسكب ما تبقى منه على رأسه!
ومع مرور السنوات، لاحظت خلال تواجدي في المغرب، سواء في الزيارات الرسمية أو عند الأصدقاء، أن الكسكس ليس مجرد طعام، بل طقس اجتماعي، خصوصًا يوم الجمعة بعد الصلاة، حين يجتمع أفراد الأسرة حوله. كما تحرص العديد من العائلات على إعداد كمية إضافية لتقديمها للجيران أو الحارس أو البستاني في شكل تضامن متجذر في الثقافة المغربية.
وتحضير الكسكس التقليدي أشبه بمراسم دقيقة.
فالقدر المخصص له، الكسكاس، يتكون من طبقتين:
•السفلية لطهي اللحم والخضار على مهل،
•والعلوية لتبخير حبيبات السميد.
وتتطلب العملية مراحل متقنة: تتبيل الزيت بالتوابل، ترك اللحم والخضار تنضج تدريجيًا، دحرجة السميد باليد مع الزيت والماء المملح، ثم تبخيره مرات عدة للحصول على قوام هش ومتجانس. وعند التقديم، يشكل السميد على هيئة هرم تتوسطه الخضار واللحم.
ولهذا السبب، كثيرًا ما يقول المغاربة:
“أفضل كسكس هو الذي يُطهى في البيت… خصوصًا من يد الأم.”
وبفضل الجالية المغربية حول العالم، أصبح الكسكس طبقًا عالميًا. ففي أوروبا على سبيل المثال، يعد من الأطباق المفضلة لدى الفرنسيين، كما يُدرَّس في معهد “لو كوردون بلو” للطهي. ويُنظر إليه اليوم كوجبة صحية وغنية بالألياف والبروتينات والخضروات.
وعند مغادرتي المغرب، قدمت لي شركة عائلية كبيرة متخصصة في إنتاج السميد بالقرب من مطار الرباط كيسين من الكسكس، ودعتني إلى الترويج له في الصين. ومنذ ذلك الحين، أحاول تحضيره كلما سنحت الفرصة، وقد أصبح أفراد أسرتي يعشقونه.
ومع اتساع العلاقات بين بلدينا—افتتاح خطوط جوية مباشرة، تعاون اقتصادي متزايد، توافد سياحي متنامٍ، والاستعداد لتنظيم كأس العالم 2030—أصبح الكسكس سفيرًا حقيقيًا للمطبخ المغربي في الصين.
واليوم، تنتشر المطاعم المغربية في بكين وشنغهاي وقوانغتشو وتشنغدو. وفي قوانغتشو مثلاً، يحظى مطعم “كازا فيلا” بشعبية كبيرة. وأنا على يقين بأن الصينيين سيقعون تدريجيًا في حب هذا الطبق الدافئ الذي يجمع الناس على مائدة واحدة.
فالكسكس ليس مجرد غذاء، بل تجربة إنسانية تشعر معها بروح العائلة وكرم الضيافة المغربي.
وإن سنحت لكم الفرصة يومًا لزيارة المغرب، فلا تفوّتوا تذوق الكسكس، خصوصًا في بيت مغربي أو مطعم تقليدي… فهناك ستكتشفون طعمه الحقيقي، وروحه الأعمق.






