الرأي

المُثَقَّف والتِّقْنِيّة.. مَــنْ يَسْتَعْمِــل مَــنْ؟

الدار/ د. صلاح بوسريف

حين أتأمل وضع المثقف في العالم العربي، أجده وضعاً لا شيء فيه يشي بالأمل في تغيير الواقع، أو حتَّى التأثير في الإنسان، من خلال تربيته، وتثقيفه، وحَثِّه على ولوج عالم العلم والمعرفة.

نعاني، اليوم، من انهيارات مختلفة، في كل حقول ومجالات الحياة. المدارس والمؤسسات التعليمية، لم تعد تستطيع لعب أدوارها التقليدية، في التأطير والتعليم والتكوين، فهي أصبحت مفارخ، فقط، لعقول تعمل ببرامج، مثل الحواسيب، أو تعمل بـ «ذكاء اصطناعي» خاضع لخطاطات مُحدَّدَة، لا يمكن الخروج عنها، لأن الاجتهاد فيها يكون في سياقها، أو في انتظار ما قد يحدث في هذه البرمجيات من تطور، من قِبَل الشركات العالمية المُصَنِّعَة، التي تحدد خارطة العمل، وطرق حل المشكلات المطروحة في الطريق. بتنا أمام إنسان آلة، أو أن العقل البشري الذي ابتكر الآلة، أصبح هو نفسه عبداً للآلة التي ابتكرها، هي من تُوَجِّهُهُ، وهي من تُحَدِّد له خارطة الطريق. لا مجال للفلسفة والفكر، لا مجال للعقل المبدع المبتكر والمتسائل، العقل القلق الذي يطرح السؤال تلو السؤال، أي لم يَعُد واقع التقنية في حاجة إلى إنسان مثقف، مُزْعِج، يُفَكِّر، ويُعبِّر عن قلقه، بما يطرحه من أفكار وحلول للمشكلات المطروحة.

المثقف العربي، دخل بدوره زمن التقنية، أو أن التقنية أخَذَتْهُ، وصار، بدل أن يَسْتَعْمِلَها هي مَنْ تَسْتَعْمِلُه، أو في أقصى الحالات، يبقى بعيداً عنها، جاهلا بها، وجاهلا بكيفية استعمالاها في التَّرْوِيج لفكره، ولما يقترحه على القُرَّاء من قضايا وأفكار، وصار، بالتالي، إما مُثقَّفاً، داخل الآلة، أو مثقَّفاً خارجها، وفي الحالتين، فهو الخاسر الأكبر، لأنه بقي على الهامش، ولم يعد له أي تأثير، كما كان من قبل، سواء في المدرسة والجامعة، أو في ما كان يُصْدِرُه من أعمال، تجد من يقرأها ويناقشها، أو يُعمِّم انتشارها وتداولها.

قليلون هم المثقفون الذين انخرطوا في حداثة التقنية بشكل فعَّال، واستثمروا هذا الفضاء بصورة جيِّدة وإيجابية، واستطاعوا، في أقل تقدير، التأثير في مسار بعض الأفكار الرَّائِجَة، أو تصحيح مسارها، وإثارة الانتباه إلى خطر بعض الظواهر التي تجري في المجتمع.

مفهوم المثقف، إذن، تغيَّر، كما تغيَّرت أو تنوَّعَت، بالأحرى، طرق نشر المعرفة وترويجها، فالكتاب، رغم أهميته القصوى، وضرورته في التعليم والتثقيف، وفي تعميم العلم والمعرفة، لم يَمُت، وما زال قادراً على مواجهة إغراءات التقنية، وكذلك المجلات والجرائد، لكن، رغم ذلك، فهذه المقاومة التي تواجهها صعاب كثيرة، فاستغلال المثقف للتقنية، ولوسائط التواصل الاجتماعي، تُتِيح له لعب دوره بصورة مُغَايِرَة لِما كان عليه من قبل، بل بتنويع مصادر وطُرُق الاتصال بالقاريء والتواصل معه، ووضع المعارف والعلوم والأفكار في طريقه، بنوع من التوسيع والتنويع، والحوار المباشر، إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك.

العالم العربي، اليوم، في مهب الرِّيح، والعقل العربي يبدو أنه يعيش في وضع ارتباك وتشويش، حتَّى لا أقول اختلالا، لأنه يعيش صدمة التقنية، وما تخلقه من ضياع وغرق في مائها. بحر لُجِّيٌّ بالتعبير الصُّوفِيّ، من دَخَلَهُ، ولم يكن عارفاً بما يقتضيه الغَرَقُ من حِيطَةٍ وحَذَر، فالماء سيأكله، ويُحوِّلُه إلى طعام لأسماكه الشَّرِسَة. والمثقف، هو واحد من هؤلاء الذين عقولهم تَشوَّشَت، ودخلت مرحلة السَّدِيم.

مَنْ إذن سيُنْقِد مَنْ، ومن سيحمي مَنْ، ويمُدُّ له يد العَوْن، حتَّى لا يغرق في هذا الماء اللُّجِّيّ الذي صار وَبَالاً على الجميع، ومسَّ المجتمعات كاملة، وانتشاره يكبر ويتَّسِع، دون توجيه، أو وعي بخطر ما يمكن أن تلعبه التقنية من أدوار في تحويل المثقف، بدوره، إلى آلة في يد الآلة، وبالتالي، تضيع البَوْصَلَة، وتَدْلَهِمُّ الطُّرُق على الجميع، بل إن دور المثقف يختفي، ويصبح بلا قيمة أو تأثير.

لعلَّ في انخراط المثقف في التقنية، بصورة فعَّالة، واقتحام هذه المجرة الجديدة، بما تقتصيه من معرفة ووعي وعمل دؤوب، هو ما يمكن أن يجعل من السِّباحَة في بحر التقنية، وسيلة لاكتشاف ما في الماء من حياة، بدل أن يصير الماء طوفاناً يأتي على البشر والحجر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة عشر − ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى